قراءة في رواية “في فم الذّئب” للروائية ريما آل كلزلي

حاتم بو بكر/ تونس_

قول في العتبة

العنوان صفعة أولى لذهن القارئ، لكنها ليست كصفعات الذئب، إذ رغم شدّتها، إلا أنها تيسير، وكشف عن المقروء، يبعث فيك الانتظار، وأنت تخال الرواية تتحدّث عن الحيوان، وحين تدرك أنّ أبطالها من عالم البشر تنتابك الحيرة، والبعثرة، ولكنك تتوجس خيفة من عالم بشري بدت الذئبيّة ترجمة له وعنوانًا، وحين أقرأ الذئب تتمطى في ذهني صورة هوبسية الإنسان ذئب للإنسان، وتجعلني أستدعي ملامح هذا الحيوان، وتحديدًا فمه ذو الاثنين والأربعين سنًّا، من بينها أربعة أنياب حادّة، تستعمل للقطع، والسحق والتمزيق، وهو ذو لسان خشن، يُستعمل لتنظيف العظم من اللحم، لذا فإنّ كلّ فريسة تدخل فم الذئب، تُمزَّق وتُستأصل “في فم الذئب”، الآن وقد علمنا أنّ الأمر يتعلّق بعالم البشر، فما وجه الشبه بين فم الذئب، وعالم البشر؟ ومن الممزِّق، والممزَّق؟ وهل سنباشر هذا التمزيق، والنهش، والقطع في فصلي الرواية؟

تستهل الكاتبة روايتها معلنة لوالدها، أنّها امتلكت من الشجاعة ما استطاعت به الانتصار على الذئب الكامن في ذاتها، مّا يجعل الرواية تخرج عن الذاتيّة، وعن منطق السير، ويجعلها موضوعيّة معالجة أو تصدّيًا لفم الذئب المفتوح الشّره، فهل كانت الراوية وفية للإنزياحات الدلالية، التي استبطنتها العتبة من عنوان، وشذرة تقديم وفصول؟

في الرواية

حينما نقول: الفريسة في فم الذئب تأكيدًا لاستحالة العودة، ولإمكان حصول النجدة، وتأكيدًا للضياع، وربما ظلمة الفم وشدة الأنياب، تحيلنا إلى أنّ الافتراس حقيقة محتمة، ولا مندوحة منها، وأنّه لا معينات أو مثيرات للسعادة تخلّصنا من هذا الانغراس، بل إننا سنجزم، أنّنا سنكون سكنًا لانفعالات سالبة، تبثّ فينا مزيدًا من الخوف والرهبة، وتهزّ توازننا، وتُغرق أعصابنا في توتّرات، وهلوسة تشكّل مأزقًا لا مخرج منه سوى التنصّل من الذّات، وتقلّد نقيضها، أمّا إذا كان الذئب داخلنا، فإنّه سينقضّ علينا مهما حاولنا إخفاءَه، وسيثور ذات انتكاسة، أو وقعة، فتنقلب سجيّتنا رأسًا على عقب، حيث يتمظهر اللامُتمظهِر، ويختفي المُتمظهِر، يستفيق المسكوت عنه، المخفي في عمق الذات، وينشط مزاحمًا الظاهر المُصرَّح به، وسينتصر في دفن الخلاص، أو الوثب عليه أو القفز فوقه، ويمكّنه من التجلّي فتفسد سريرتنا بحكم شدّة قبضته، وإحكام السيطرة علينا، وهو ما يفعله اللاوعي الكامن .. تأويلات ودلالات تتزاحم؛ فعلى أي منهما يفهم انزياح العتبة من عنوان وإهداء؟

هل نكرر قول كانط: “عيب الإنسان أنّه كان طفلًا” أم نقول: إنّ الطفولة قانون الوجود البشري؟ كلّ وجود إنّما هو مرحلي، يقتضي حركة النفي، ونفي النفي، ولذا ليس العيب في فترة الطفولة، وإنّما العيب يُساق إليها من الغيريّة، وما تحيكه من أطر، وقيود، وقسر، وشدة، وصلابة، وما تنشره من شرور ربّما بسبب عدم قدرتها على استيعاب حركيّة الأجيال، أو لأنانيّتها، ولعدم مراعاة حقّ الطفل، وتجاهل أناه بل ولجهلنا – نحن العربَ – كما تصرّح الراوية على لسان خالد في الصفحات الأخيرة كاستنتاجات – بأهميّة مرحلة الطفولة في تشكيل الشخصيّة، وجهل ما لمدّخراتها من دور في بناء الطفل الإنسان، فهي التي تبني إنسانًا ذا ضمير إنسانيّ أو حيوانًا – ذئبًا- داخل الطفل يستتر ما قبليًّا، وينجلي ما بعديًّا.

خالد وشذى شخصيّتان ابتلعتا المكبوت النفسي اللا واعي، والمكبوت الاجتماعي اللا واعي، وباتا في فمه – في فم ذئب – مّا أفقدهما القدرة على تبيّن خيوط الحياة، وعلى نسج معناها، سارا في البدء والتوازن النفسي سيّد شخصيتهما رغم الذئب المدفون فيهما، سارا وفجأة باتا بين فكّي هذا المخبوء المندفع الجامع، قطعا الأعقلة، التي رزحا تحتها، وفكّكا القيود الايتيقية والجمالية كلها، واشتراطات الغيريّة أو فروض الطاعة.

أحمد الشخصيّة الرئيسة؛ ولد في عائلة وجّهت اهتمامها كله، إلى راشد المولود بثقب في القلب، تعلّقت به العائلة، وهامت وأولته العناية، تُرك أحمد على الهامش وعلى الحاشية، انقطع الوصل بين أفراد العائلة، ما عدا جدّته التي مثّلت الشخصيّة الوحيدة المعين لخالد، الصدق والمنع، والحظر، حواجز تشكّلت بينه وبين أبيه، الأمّ هي المرأة الشرقيّة المسكونة بالخوف، تلك التي لا تملك حيلة سوى تقديم بعض الفكّة المسروقة من جيب الأب، أب قبلي غليظ يثق في ذاته، ولا يفسح المجال لابن يريد تقرير مصيره والدخول إلى كليّة الطب النفسي- رغم كونه مدرّبًا نفسيًّا -. يُجبَر أحمد على اختيار المُختار له من قبل الأب، ويفشل لانقطاعاته المتكرّرة، لعدم حبّه وعشقه السلك المختار له.

شذى تلتقي معه في “الوضع” بلغة سارتر، غير أنّه وإن كان في الوجوديّة منفذ للقفز فوقه، وعليه فإنّ الأمر نقيض ذلك في وضع خالد وشذى، شذى فتاة تحنّ إلى أب، لم يفقه معنى الزواج، أنجب وغادر وتزوّج ولا رابط بينه وبين أهله إلا بطاقة بنكيّة، فقدت الحنين، والحبّ، والإحساس بالأبوة مع وجود أخوة من أب قساة، يأمرون، وينهون، ويملون الواجبات، واجبات دون حقوق، ذات مكبوتة، حياة عبوديّة ورق؛ لا مجال فيها للأنا ولفعل الإثبات، أضف إلى ذلك معاناة أم تعاني من الصرع، تتراكم العوامل المتأتّية من الغيريّة؛ لتشكّل أرضيّة مباشرة لتشكيل المكبوت اللا واعي، ولخلق ذات لا سويّة دفينة رغم النجاح في إخفائها في هذه المرحلة، ولكنّني لا أعتقد أنّه نجاحٌ بل أدرك أنّنا بمحضر تُربة بصدد الغرس، وأنّها تُغرس حسكًا وشوكًا عوضًا عن الورد والعطر، هو خريف يغزو الربيع، أو جنون يغزو التعقّل، أو العقل الباطن يغزو العقل الظاهر، والضمير أو “إرادة عمياء” بلغة شوبنهاور تغزو عالم الإرادة الحكيمة، أحمد وشذى شخصيّتان تماهتا أو تقاربتا في أحوال الطفولة، طفولة خضعا فيها إلى اشتراطات الغيريّة المحكمة، فيها بدأت الأسنان – 42 – تنمو في فم الذئب اللا واعي، أو فيها بدأ المكبوت اللا واعي يتحفّز ليعلن عن ذاته.

الرواية تمفصلت الى فصلين، بدا لي الأوّل الثاني، والثاني الأوّل، ولكن عمليّة القلب الواعية، التي قامت بها الكاتبة أكسبت النصّ مسحة “استيتيقية” جعلتها تُخرج العمل بطريقة مغايرة للمألوف، إذ بدأت بالنتيجة وانتهت بالكشف عن العلّة، الفصل الأول كسته عمليّة استرداديّة استرجاعيّة، وكانت نشطة رغم ثبات المكان – المستشفى-ومساواة الزمان.