آراس بيراني_
فنان الوجع والمقهورين…
الفنان الذي حرقته الحياة مرتين…
رحلة النهاية… والمعرض الأخير
النار الشاهد الوحيد
من 26 كانون الأول، نبدأ سرد رحلة الوجع، حيث التهمت النيران مرسمه، الذي أتت عليه النيران؛ بسقوط سيجارة من يده، وهو غائب عن الوعي، فلم تكن لديه رفيقة في السرير، تبعد السيكارة من صمت أصابعه، أو من بين شفتيه… هل رحل وغادر العالم؟
أسئلة كثيرة حول ما حدث تلك الليلة، فقد كانت لوحاته غير المكتملة، والنار، هما الشاهد الوحيد، لم تبح ألسنة اللهب بأسرار اللحظات الأخيرة… فقد كان يعلم أصدقاؤه المقربون، بنوبات حزنه الشديد، وباكتئاب في سنوات عمره الأخيرة، وكان مولعاً بالنار، فكانت محارق البخور ترافقه في مرسمه، كأحد طقوسه الصوفية، في ممارسته الرسم، كانت روحه نقية شفافة طاهرة، تترفع عن الرداءة والمال، فكان يتوضأ بالضوء، ويبدأ بتطهير مساحة الضجر، ورداءة الواقع عبر طريقة رسم ثورية بنزعة تمردية، فمن لوحة ماسح الأحذية إلى بائع اليانصيب… مروراً بالنساء الحزينات، المقهورات، ولوحة المرأة الخياطة، والنساجة، وبائع نايات القصب، فقد أتت النار على لوحاته المنجزة، وغير المنجزة كلها.
لؤي كيالي الفاقد الذكاء، الذي أُتُّهمه الكثيرون بالجنون، فهو مرهف الحس في رسمه، لم يحتمل جرعات الحياة المريرة، كانت حياته اليومية معاناة مستمرة، كان يستطيع أن يحيا حياة شاب عابث، حياة فنان ارستقراطي، ولكنه كان قريباً من الشارع، من القاع، من العمال والطلاب، والنساء الطيبات، العاملات مع المسحوقين والمقهورين، كان يعبّر عن ذلك كله بريشته المبدعة.
هو فنان متوقد الذكاء بروح متأججة، فكانت المعاناة، التي يحياها الإنسان المسحوق، هي التي تؤجج قريحة ريشته، فيغير واقعه بألوان ساخرة مفرحة، وهو مترفّع عن بهرج الحياة كله، متوسّد آلام وأوجاع المسحوقين في مجتمعه؛ لأنه في رسماته يعيد الأمل والحياة.
كان ذلك عشية أعياد الميلاد، ورأس السنة الميلادية من عام 1978 في السادس والعشرين من شهر كانون الأول، فمن هو لؤي كيالي، الذي عاش مبدعاً ورحل محترقاً؟
في مدينة حلب ولد عام 1934، وبدأت مواهبه في الرسم خلال دراسته الابتدائية، درس الحقوق بعد تخرجه من مدرسة التجهيز، التي كان لها الأثر الكبير في تشجيعه، فانتهج طريق الفن، والرسم، والكتابة، حيث نُظِم له أول معرض فردي.
التقى عام 1952 بالفنان السوري وهبي الحريري، وشكل ذلك بداية مرحلة فنية وصداقة، استمرت حتى وفاته، ترك دراسة الحقوق والوظيفة الحكومية، ليأخذه شغفه بالفن إلى العاصمة الإيطالية روما، قبلة دارسي الفن، حيث تم إيفاده في بعثة خارجية من قبل وزارة المعارف السورية، فتخرج من أكاديمية الفنون الجميلة في روما عام 1961، وعاد إلى دمشق؛ ليعمل أستاذاً للفن مع زميله وصديقه الفنان فاتح المدرس، اللذين شكلا نقلة نوعية في تاريخ الفن التشكيلي السوري.
شارك في العديد من العروض، والعديد من المسابقات، وحصل على الجائزة الأولى في مسابقة سيسيليا، والميدالية الذهبية للأجانب في عام 1959، نال كيالي الجائزة الثانية في مسابقةٍ بعنوان “ألا ترى”.
أقام كيالي معرضه الثالث في صالة الفن الحديث العالمي في دمشق، وكان ذلك المعرض من أهم المعارض الأولى له في مدينة دمشق؛ بسبب تأثر الوسط الفني بأسلوب وتقنيات وأفكار كيالي، وأقام كيالي معرضه الرابع في الصالة نفسها في عام 1962، وسافر بعدها إلى إيطاليا في عام 1964، حيث أقام معرضه الخامس في صالة “كايرولا” في مدينة ميلانو الإيطالية، وأقام كيالي معرضه السادس في صالة “الكارنييه” في مدينة روما.
عاد بعد معرضه السادس إلى سوريا، مقيمًا معرضه السابع في المركز الثقافي العربي في دمشق في عام 1967، ورسم لوحةً بعنوان “ثم ماذا” كان لها أثرٌ كبير في هذا المعرض، أدت إلى ابتكار 30 لوحة تتكلم عن معاناة المواطن في مسيرة التحرر، وانتقل المعرض بعدها إلى العديد من المناطق السورية، ما أثار سخط الفنانين المحلّيين.
أقام كيالي معرضه الثامن في مدينة بيروت في عام 1971، وعاد إلى سوريا، وأقام معرضه التاسع في صالة الشعب للفنون الجميلة في دمشق في عام 1974، ليعود إلى بيروت بعد فترة، وأقام معرضه العاشر هناك في صالة “وان”.
نظّم كيالي آخر معرضين له في صالة الشعب للفنون الجميلة في دمشق، فكان المعرض الحادي عشر في عام 1976 والثاني عشر والأخير في عام 1978.
توفي كيالي إثر حريقٍ شبَّ في منزله في حلب؛ بسبب سقوط لفافة تبغٍ على سريره، لتأكل النار ذلك الجسد المُعنّى بحبّ الرسم، نُقل كيالي إلى المستشفى الجامعي، وفارق الحياة متأثراً بحروق من الدرجة القاتلة، في الـ 26 كانون الأول عام 1978 بمدينة حلب.
وتناقلت الصحف آنذاك أخبار انتحاره حرقاً، بسبب حالة اكتئاب شديدة عاشها في أعوامه الأخيرة.
