عيرتني بالشيب وهو وقار ليتها عيرت بما هو عار

لمياء جمعة حسو

أتسائل دومًا كيف يشعر المرء حينما يصل إلى المحطة الأخيرة من العجز في حياته، كيف يكون وقع هذا الحدث على قلبه، وكيانه وهو عاجز عن كل شيء، عن أخذ قرارته بالامتناع عن مواصلة الطريق، فأما العجز الجسدي وفي ملازمة الفراش، فعجباً كيف تكون حالته النفسية؟

جميعنا في هذا الحياة عرضة للشيخوخة والكبر والانفعالات اللاإرادية، علامات تقدم بالسن تبدو واضحة في وجه الأشخاص، لكن السؤال كيف يستطيع العاجز جسدياً على خدمة نفسه، دون وجود من يقدم له العون والاهتمام؟

تأثرت كثيراً بحادثة امرأة قد تجاوزت الخمسين خريفاً من عمرها، فقد جف عودها وتساقطت أوراقها، امرأة قد نال منها الزمن ترقد فوق سريرٍ أبيض في احدى المشافي، لم يكن هنالك أحد لخدماتها ولا لتقديم العون لها سوى الكادر الصحي، جسدٌ هزيل لا يقدر على الحركة، فقد نالت منها الديدان، التي بات تفتت قدمها والجلدُ يتقشر، وهي طريحة الفراش واهنة العود ممددة على ظهر سريد أمدى روحها ومقلتيها ومل من ثَوائها، تعجبت من أمرها، لا أحد من ذويها حولها، وتملكني الفضول فتقربت منها وسألتها عن أحوالها وعن الأمر الذي أوصلها لهذه درجة، ألم يلاحظ أحد ذويك حالتك الصحية، وأنتِ تذبلين هكذا؟

أجابتني والألم يعتصر قلبها الحزين: “أشعر بالسوء حيال نفسي، ولكن لا حول ولا قوة لي، فأنا لم أرزق بأولاد، وزوجي متوفٍ، منذ أكثر من عشرة أعوام، لدي أخوة لكن لا يوجد أحد بجواري، فالكل منصرف في مشاغله وفي بلد آخر، يراني الجيران فيقدمون لي بعض العون، أخواتي يسدون نفقاتي، لكن لم أسلم من الغدر، فالجميع من حولي يقاسمونني هذه النفقات، وأنا لا قدرة لي على شيء، وأفضل المكوث في المشفى خيراً لي من بيت الأشباح، الذي أسكنه وحدي”.

رغم الشيخوخة التي نالت منها إلا أنها ذات وجه مبتسم، فقد كانت ذات نسب عالٍ، لكن حكم القدر أن تكون وحيدة في شيخوختها، وردة جورية ذابلة لقلة الاهتمام، لا تقدر على الجلوس وخدمة نفسها.

سألتها لماذا لا تسكنين مع أخوتكِ؟

أجابت: “أنهم لا يريدون بقائي جانبهم، فقد اعتدتُ على الوحدة منذ زمن طويل، تعلمتُ الصبر ومُرّ العيش، جميعنا معرضون لحكم القدر، فلا أحد يمكنه معرفة ما سيحدث معه مهما ملك من المال والجاه والأصدقاء، والأقارب سيأتي يوم لن ينفعك شيء في الحياة، حتى لو كنت تملكين الأولاد، الذي ربيتيهم، سوف يتخلون عنك، فنحن نسمع بحوادث تخلي الأبناء عن آبائهم لعجزهم عن خدمتهم، أو لأسباب أخرى يعلمها الجميع.

ليس هذا فحسب، رأيت ذات مرة امرأة تقارب الأربعين من العمر متشردة، مكبلة بالأغلال حول أقدامها تمشي، ولا تدري إلى أين.

حكم الزمن عليها أن تفقد عقلها لكن من كبلها؟ أيعقل أن يكون هناك من يفعل هذا الجرم؟ فامرأة مثلها يجب أن تأخذ قدراً من الاهتمام، لا أن تعامل بهذه الطريقة، وأن تسلك الشوارع، لا تعلم إلى أين تذهب، وهي فاقدة العقل.

حوادث كثيرة نسمع عنها ونراها، ففي مثل هذا الحالات يجب أن يكون هناك دار رعاية للمسنين، والأمراض العقلية في المدن تهتم بهذه الحالات، يجب علينا ألا نبخل في تقديم العون والاهتمام لهم من باب العطف، والإنسانية، يجب علينا أن نحكم ضمائرنا في هذه الحالات، فالمسن أو أي مريض لا تهمه الأشياء المادية، إنما يحتاج إلى الرعاية، وإلى الدعم المعنوي والحب والعطف، فالمسنون عندما يتقدم بهم العمر ويصبحون في زمن الشيخوخة، يحتاجون إلى الاهتمام كالطفل في المساعدة والرعاية.

أعزائي لننظر إلى قاع ضمائرنا، علينا ألا نبخل بالقليل من الإنسانية، والعطف تجاه من ليس لديه أحد لتقديم العون، فعند الله لا يضيع الأجر، ولا الحسنة؛ لذلك لنكن عطوفين.