سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

عن الصين وانحسار قوة الولايات المتحدة

إيساك كاردون وجينيفر كافاناه_

كان القلق بالغ في الأوساط الغربية إزاء احتمال أن تحل الصين محل الولايات المتحدة – أو على الأقل تنافسها – بوصفها القوة العظمى الرائدة في العالم. ومع ذلك، جاءت الأزمة الأمنية المتطورة في البحر الأحمر لتكشف أن هذا الأمر لا يزال احتمالاً بعيد المنال.
من جهتها، تعتمد الصين، التي يقوم اقتصادها على التجارة والتدفق الحر للتجارة عبر نقاط المرور الخانقة، مثل مضيق باب المندب قبالة اليمن، على الولايات المتحدة لحماية الممرات البحرية الدولية. ومع أن الرد العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة على هجمات ميليشيا الحوثي على ممرات الشحن الدولي، ربما لا يكون في نهاية المطاف الحل للأزمة الراهنة – يبدو أن الرد، حتى الآن، غير رادع – فإن واشنطن أظهرت، على الأقل، التزاماً واضحاً تجاه الحفاظ على ممرات التجارة الحيوية الرابطة بين الصين والشرق الأوسط وأوروبا، مفتوحة.
وبدلاً من التصرف بوصفها زعيماً عالمياً كما تزعم، لم تتخذ الصين أي خطوة ملموسة لتحمل تكاليف أو مخاطر ضمان الأمن في البحر الأحمر، رغم وجود قاعدتها العسكرية الوحيدة المعلنة في الخارج بجيبوتي المتاخمة لمضيق باب المندب. كما أنها لم تطرح علناً بديلاً قابلاً للتطبيق للإجراءات الأمريكية. ويبدو أن بكين راضية بالبقاء ساكنة إلى حدٍ كبير، وتوجيه انتقادات مستترة للرد العسكري الأمريكي.
وتلعب بكين لعبة لا تخلو من المراوغة، وذلك أنها تستفيد بالمجان من القوة الأمريكية نفسها التي تنتقدها، وتحاول الحصول على الأمرين في كلا الاتجاهين.
من منظور قادة الصين، هناك منطق استراتيجي معين وراء هذا الأمر، يقوم على فكرة أن أزمة البحر الأحمر تصرف انتباه واشنطن بعيداً عن آسيا، ما يتيح لبكين الوقت اللازم لحشد قدراتها غرب المحيط الهادي، في حين تقدم نفسها على أنها قوة خيّرة لا تتدخل في شؤون الدول الأخرى. وقد نجح هذا الأمر على صعيد واحد مهم على الأقل: فقد سمح قادة الحوثيين للسفن التجارية الصينية بالإبحار سالمة عبر البحر الأحمر، مقابل عدم تدخّل الصين في الصراع على ما يبدو.
من جهتها، يتعين على الولايات المتحدة أن تُدين الصين، بسبب ازدواجيتها وتضغط عليها للبدء في التصرف بوصفها قوة مسؤولة، من خلال تقاسم بعض عبء حماية طرق التجارة واستخدام نفوذها على إيران لإنهاء هجمات الحوثيين ضد ممرات الشحن البحرية.
من جهتهم، يطمح القادة الصينيون إلى نيل مكانة أكبر في المنطقة. وقد وعد الرئيس شي جينبينغ «بالمساهمة بالحكمة الصينية في تعزيز السلام والهدوء في الشرق الأوسط»، وكشف بالفعل عن مجموعة كبيرة من المبادرات الأمنية والتنموية في السنوات الأخيرة. إلا أنه على أرض الواقع، تبدو تصرفات الصين في الشرق الأوسط مدفوعة جزئياً بالرغبة في تحدي القوة الأمريكية.
مثلاً، في الحرب بين إسرائيل وغزة، انضمت الصين إلى روسيا وإيران في تقديم الدعم الاسمي لـ«حماس»، ورفض إدانة هجمات الجماعة على إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول).
جدير بالذكر أن نحو نصف النفط الذي تستورده الصين من الشرق الأوسط، ويوفر البحر الأحمر منفذاً بالغ الأهمية إلى أوروبا، التي تشكل واحدة من كبرى أسواق التصدير أمام الصين، وحتى مع منح الحوثيين تصريحاً بالمرور للسفن التي ترفع العلم الصيني، فإن شركات الشحن والمصدرين في البلاد يتعرضون لضغوط بسبب الاضطرابات التجارية.
ومن الممكن أن تؤدي الأزمة الإقليمية الطويلة إلى زيادة الضغوط على الحزب الشيوعي في الداخل، حيث يواجه اقتصاده بالفعل رياحاً معاكسة قوية على نحو يجعله غير قادر على تحمل مخاطر سلاسل التوريد المتشابكة وارتفاع أسعار الشحن والتأمين. على المدى الطويل، قد تتضرر سمعة بكين إذا ظهرت كأنها دولة غير فاعلة في المنطقة.
وتأتي الأزمة في البحر الأحمر بمثابة تذكير بهشاشة منظومة التجارة التجارية العالمية والمسؤولية المشتركة لحمايتها. لدى واشنطن مصلحة أساسية في حماية حرية البحار، سواء بصفتها قاعدة دولية أساسية أو لتحقيق المنفعة الاقتصادية الأمريكية. إلا أنه في الوقت ذاته، يعدّ النظام التجاري البحري المستقر والمفتوح منفعة عامة تتطلب تقاسم الأعباء من جانب أصحاب المصلحة، مثل الصين.
على الصعيد المعلن، لم تُعلّق الصين كثيراً على هجمات الحوثيين على طرق الشحن الدولية، باستثناء إصدار دعوات غامضة لوضع حد لـ«مضايقة» السفن المدنية. وبوصفها شريان الحياة الاقتصادي لإيران، تحظى الصين بنفوذ كبير، لكن يبدو أنها غير راغبة أو غير قادرة على منع طهران من صب مزيد من الزيت على النار الإقليمية أو تقديم الدعم للميليشيات الحوثية، ما يقوض فاعلية الصين بصفتها راعياً أمنياً. ومن خلال الاستفادة من مرورها الحر عبر البحر الأحمر، تضفي الصين ضمنياً الشرعية على هجمات الحوثيين ضد أهداف مدنية.
وربما تفتقر القوات الصينية الناشئة في الخارج إلى الثقة اللازمة للاضطلاع بدور أكبر في البحار المتنازع عليها، وهناك تساؤلات مشروعة حول ما إذا كان تشجيع الوجود العسكري الصيني الأكثر قوة في المياه الدولية أمراً مرغوباً من وجهة النظر الغربية، أم لا. إلا أن هذا لا ينبغي أن يثير كثيراً من القلق في الغرب – فليس هناك حتى الآن ما يشير إلى أن الصين تستطيع أو تنوي إظهار مستوى القوة العسكرية في الخارج الذي تفعله الولايات المتحدة الآن. وربما لا يزال أمامها أكثر من عقد.
من جهتها، ينبغي لواشنطن تذكير بكين بأن أمن الطاقة وسلاسل التوريد الخاصة بها على المدى الطويل معرضان للخطر في البحر الأحمر، والضغط عليها للتصرف – بناءً على ذلك – على نحو بنّاء، من خلال، على سبيل المثال، المشاركة في دبلوماسية الأزمات المنسقة للمساعدة في حل الأزمة. ويجب على واشنطن إظهار استعدادها للعمل مع بكين لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، وتشجيع التزام صيني أكبر بثقلها الاقتصادي والدبلوماسي، بل وربما حتى العسكري لمواجهة التهديدات الأمنية المشتركة.
وبصفتها الدولة التجارية الأولى في العالم، كانت الصين وستظل المستفيد الرئيسي من نظام تجاري عالمي مفتوح. ولا يمكن ضمان التزام واشنطن بحماية هذا النظام إلى الأبد، خصوصاً إذا كان لنا أن نصدق رواية بكين عن انحسار قوة الولايات المتحدة.