عندما يعجز اللسان عن الكلام تتحدث الإرادة

جل آغا/ غزال العمر ـ

شاب أبكم من ذوي الهمم من ريف ناحية جل آغا، يتميز بأناقته وصدقه وسمعته الطيبة بين أقرانه وجيرانه، يمارس حياته الطبيعية والعملية بكلِّ ثقة وإرادة بخطواتٍ ثابتة، مستعيضاً عن فقده لقدرته على الكلام بلغة الإشارة والكتابة كوسيلة للتخاطب والتفاهم مع محيطه.

 رحلة البحث عن عمل

لا تولد قوة الإرادة مع الشخص ولا يشربها مع حليب الأمهات، بل يكتسبها من خلال العراك مع الحياة والمكافحة فيها والتعب منها، فالإرادة تصقلها التجارب وخاصة أنّ كان هذا كلّه بصمت ودون صراخ من أوجاعها أو التلفظ بحرف واحد بوجهها.
وُلِدَ أصمَّ وأبكمَ، هذا ما فهمناه من إشارات فيصل محمد الأسود من سكان ريف ناحية جل آغا الشرقي في شمال وشرق سوريا (٣٢ عاماً) جاء يبحث عن فرصة عمل في البلدة ليستقر بها بحسب حديثه الإيمائي.

عمل الأسود في الخياطة في سنواتٍ مضت، ويشهد له أهل المنطقة ببراعته، وعن كيفية تلبية طلبات زبائنه أوضح بأنّ زبائنه يأتون بقطعتين قديمة مفصلة وأخرى قماش ليصنع مثلها، بهذه الطريقة يتعامل مع زبائنه حسب تعبيره بالإشارة التي إنْ صعب عليه التفاهم بها مع الناس يستعين بالكتابة. أما في الوقت الحالي وبعد أن صعب عليه أن يفتح محلاً للخياطة لما يترتب عليه من مصاريف باهظة يعمل الشاب عاملاً في محلٍ للتمديدات الصحية منذ أكثر من عامين، وتربطه علاقةٌ طيبة مع رب عمله.

تناغم وانسجام

 يقول عماد السفو صاحب محل للتمديدات الصحية منذ أكثر من ١٥ عاماً في ناحية جل آغا (٣٥عاماً) واصفاً عامله الذي بدا منسجماً معه، بأنّه شخص ذكي جداً وأمين، لم يمنعه عدم قدرته على الكلام عن العمل وعبر عن ذلك بقوله: “فكلّ ذو عاهة جبار”، وهو يعمل عنده منذ أكثر من سنتين.

صعوبات تواجهه في عمله

وعن الصعوبات التي تواجهه في عمله، سواءً بالخياطة أو كعاملٍ يلبي طلبات الزبائن في المحل، تحدث السفو الذي نقل معاناة فيصل الذي يحدثه بها في أوقات فراغهما قائلاً: “يُفضل الناس التعامل مع الشخص السليم ولا يجهدون أنفسهم بالتفاهم مع شخص أبكم رغم إتقانه لعمله”.

وأشار السفو إلى أنه لا يشعر الشاب بالغضب أو الانزعاج من عدم فهم الناس له في بعض الأحيان، لكنّه يتضايق في قرارة نفسه عندما يعجز عن إيصال الفكرة لهم، حسب الصورة التي نقلها لنا السفو الذي بات يفهم عليه إلى جانب الكثير من أصحاب المحلات المجاورين له.

كيف يداعب الأب طفله؟!

 رُزِقَ “الأسود” بطفل وحيد بعد خمس سنوات من زواجه، حيث بدا الوالد الأصم سعيداً برؤية طفله بين يديه، وذلك حسب تعابير وجهه التي ارتسمت عليه السعادة “أكتفي بالنظر إليه ومداعبته لكنني لا أسمع صوته”. وأشار الأسود إلى أنه يبدأ صباحه بمداعبة طفله قبل توجهه لعمله واستعداده له.

 يطمح لتعليم ابنه للخياطة

يكتب فيصل الأسود اسم ابنه الذي أسماه “علي” على يده، وفيما إذا سيعلمه الخياطة أجاب بـ”نعم”، وقد بدا سعيداً ومرحباً بالفكرة عبر إشاراتٍ يمتدح بها مهنة الخياطة التي يطمح بالعودة إليها عند قدرته على ذلك، لكنّه لا يفكر بترك عمله الحالي، فالناس قد اعتادت عليه وصار لديه أصدقاء.

ويتابع فيصل الأسود حديثه مستخدماً لغة الإشارة تارةً والكتابة تارةً أخرى بأنّ ماكينة الخياطة لا تزال لديه ويؤمِّن بها مستلزمات أهل بيته.

شكر وإشادة بأمانته

هذا ويراعي السفو ظروف عامله، حيث يحاول تأمين طلباته وإعطائه ما يريد حتّى قبل وقتٍ من استحقاقه لراتبه: “قد أصبح أباً وكبرت مسؤولياته ولا بد من الوقوف بجانبه”.

 كما يعتمد السفو على عامله بكلِّ شيء: “ريحني جداً بعملي، هو شخص عملي وجِدِّي جداً في عمله ويعمل وكأنّه صاحب رزق وليس عاملاً”.

تسلب من الإنسان بعض النعم وربما يتوقف عمل أحد الحواس، نفقد قدماً أو حتّى يداً، لكنّها ليست النهاية، بل يجب أن تكون بداية لنحلق بعيداً عن دروب اليأس مستنصرين للأمل، كشابٍ أخرس حُرم من سماع صوت بكاء وضحكات ابنه لكنّه لا يزال يبتسم له وللحياة.