عندما تدرك المرأة ذاتها

ليلى خالد (كاتبة وقاصة وإدارية مشتركة لمنتدى حلب الثقافي)_

كلما اقتربت الذكرى السنوية للاحتفال باليوم العالمي للمرأة الكادحة على المستويات كلها، وبالرغم من احتفال غالبية دول وشعوب العالم بهذه المناسبة، إلا أن هذا اليوم يدعونا إلى تذكر الحدث الأليم، الذي تمخض من آلام ومعاناة المرأة على المدى الطويل لتصل إلى اليوم الذي خرجت فيه نساء عاملات من أمريكا الشمالية وأوروبا، وهن يطالبن بتحسين أوضاعهن في خفض ساعات العمل، ورفع أجورهن.

فقامت النساء العاملات بالإضراب عن العمل داخل مصانع النسيج، فواجههن صاحب المصنع بإغلاق وإحكام الباب عليهن ثم إضرام النار وإحراق المصنع بأكمله بمن فيه، وأدى ذلك إلى حرق النساء العاملات اللواتي كن فيه، وهن من جنسيات مختلفة أمريكية، وإيطالية.

مطالبات من أجل تعزيز حقوق نسوية

كانت النساء تعمل مدة اثنتي عشرة ساعة متواصلة يومياً في مصانع القماش الصغيرة، والتي كانت منتشرة حينها في الولايات المتحدة مقابل أجور متدنية جداً بخلاف أجور الرجال، مع عدم الأخذ بعين الاعتبار خصوصية المرأة من حيث التركيبة الفسيولوجية (الدورة الشهرية –الإنجاب – الرضاعة)، بالإضافة للواجبات المنزلية، التي تقع على عاتقها، وهذا الضغط ولّد لدى النساء العاملات انفجاراً كبيراً فانطلقت أولى الشرارات من النساء المحتجات على قسوة الحياة والظروف الصعبة، يطالبن بحق المساواة في الأجور وخفض ساعات العمل، لكن تم مواجهة مطالبهن باحتقار، وإذلال من أصحاب الذهنيات الاقصائية “التمييز الجنسي”.

هذه الشرارة انطلقت واندلعت نيرانها متحديةً العقبات من حولها فأصبح الإضراب أحد الأساليب المؤثرة، التي تنتهجه النساء كأداة فعالة بين يديهن حينها، واستمر خروج آلاف من النساء للاحتجاج في شوارع مدينة نيويورك استنكاراً على قساوة الظروف المعيشية الصعبة واللاإنسانية التي تمارس بحقهن، وفي كل مرة كانت تجابه بعنف وتتدخل حماة السلطات أينما كانت، وأي كان نظامهم لتفريقهن لكنهن مع مرور الوقت نجحن في إلزام المسؤولين والسياسيين للاستجابة لبعض مطالبهن والتطرق إلى قضية المرأة العاملة.

بداية تشكيل حركات نسوية

وتتالت تظاهرات النساء في أنحاء العالم وخاصةً في مدينة نيويورك وبأساليب جديدة، حيث اُتبِعَتْ في إحدى المظاهرات الأساليب التي تعبر عن هويتهن، حيث حملن الورود والخبز اليابس، وكان ذلك شعار لحركتهن الاحتجاجية لتبدأ بذلك بداية تشكيل حركات نسوية في كل العالم وفي الولايات المتحدة تحديداً وخاصةً بعد انضمام غالبية النساء من الطبقة المتوسطة إليهن ومطالبتهن بالمساواة والإنصاف بحقوقهن السياسية والانتخابية، وحملت تلك الحركة اسم سوفرا جيستس (suffra gists) والتي تعني (حق الانتخاب) وتعود جذورها إلى فترات النضال ضد العبودية لانتزاع حق الأمريكيين السود في الحرية والانعتاق من العبودية، إذاً فالنساء الأمريكيات كان لهن الدور الكبير في دفع الدول الأوروبية لتحديد يوماً للمرأة، وذلك خلال مؤتمر كوبنهاغن في الدنمارك حضرته مندوبات من سبع عشرة دولة، حيث تبنوا مقترح للوفد الأمريكي في تخصيص يوم في السنة للاحتفال بعيد المرأة، وقد تبنت منظمة الأمم المتحدة ذلك المقترح عام 1977 فاختارت أغلبية الدول يوم الثامن من آذار للاحتفال بيوم المرأة، هذه الحقوق، التي حصلت عليها النساء من خلال التمردات والتظاهرات، التي خرجت بها كانت بمثابة مادة إسعافيه فقط ضمدت به الشرخ الكبير الحاصل بين المرأة والرجل، وبالتالي بينها وبين الطبيعة والمجتمع، والذي أدى بها إلى الاغتراب بشكل أكبر عن الذات وظهر بشكل واضح مع  بدء ترسيخ المجتمع الطبقي، وأفرزت معها العديد من المشاكل الطبيعية والاجتماعية، لذا فقضية المرأة لا تنتهي بتخصيص يوم لها في السنة بل تحتاج لحلول جذرية للقيم والمبادئ، التي سلبت ونهبت إرث المرأة، وهنا أدعو النساء للعودة إلى ذاتهنَّ وتحرير أنفسهن من براثن التكنولوجيا، التي طورتها الحداثة الرأسمالية، وبالتالي سيكون تحررها بمثابة الخطوة الأولى لتحرر الرجل والإنسانية والمجتمع أيضاً.

وبهذا المنظور عدَّ الفيلسوف أنجلس و شاطره المفكر القائد عبد الله أوجلان، أن المرأة هي المستعمرة المضطهدة الأولى، التي تعرضت للسحق والتهشيم، فحتماً السعي نحو التحرر والخلاص سيبدأ من عندها، لتعود لطبيعتها وتحيي المجتمعية من جديد، ولن يتحقق ذلك دون بناء نظام ديمقراطي عادل من خلال إيديولوجيا شاملة تترسخ في إيديولوجيا تحرر المرأة، والتي ستكون في مواجهة إيديولوجيات النظام الطبقي البطريركي، والرأسمالي المتجسدة في ذهنية  الرجل الماكر، “وفق تعبير صموئيل كريمر”، ومواجهة أشكال السلطة والاضطهاد والإجحاف، والاستغلال لتتحداها كلها، وتوجه الإنسانية والحياة نحو نظام مجتمعي حر، والذي نفتقده في هذه المرحلة  وتصيغ فيه حلولاً للقضايا الرئيسية، التي تشغل جدول الإنسانية بدءًا من حل المشاكل المتمخضة عن الحرب، وفي التناقضات الطبقية والكامنة في نظام المدنية، والإنسان حتى تحقيق وتكريس الأمن والسلام.

هذه المجتمعية المتكونة من أول تنظيم اجتماعي في التاريخ كانت متمحورة حول الأم ولا يتخذ من العنف والضغط أسلوباً بل تعتمد على مبادئ هذه القيم، التي تدعو إلى التشبث والتمسك بالأرض، التي ولدت ونشأت فيها، وتطوير الإرادة والفكر الحر لإعادة صياغة إرادة المرأة والرجل بشكل أكثر رقياً بعد تحطمها مع نشوء المجتمع الطبقي. وتعتمد في تنظيمها هذا على التناغم الثنائي بين الجنسيين بعد أن تم حرمانها من ذلك بأشد الأشكال، التي تفصل جنس عن الآخر، لتصل بذلك إلى تطوير النضال اعتماداً على الوعي بشكل أساسي والمشاركة الفعالة في الحياة بالتساوي، فإحياء مبادئ تحرر المرأة وبناء مجتمع يتعايش، وينشد الحرية يعبر على جسرٍ من النضال الدؤوب لتصل إلى إعادة البناء على أساس مفاهيم، ومقاييس جديدة تساهم في إنشاء حداثوية وفق أسس لخدمة الفرد والمجتمع، والارتقاء بالأخلاق ليكون بديلاً عما تجاوزه الزمن، فتخلق التحول اللازم، وتعبر بالإنسان نحو المجتمعية، وتعود بذلك لمكانتها المرموقة في المجتمع، وتعيد تجديد وتوازن الحياة؛ لتكون لائقة بلقبها الآلهة وتشبيهها بـ”الأرض الأم والطبيعة الأم”.

فكر القائد أوجلان أنار درب المرأة

في نهاية مقالي هذا، لابدَّ لي من أن أذكر دور المفكر والفيلسوف عبد الله أوجلان في فك الطلاسم والظواهر، التي سخرت وساهمت في إسقاط المرأة، وحللها وفسرها متناولاً جوانب الحياة في الكون، والطبيعة، والإنسان، وطرح أطروحته لإعادتها لمسارها الحقيقي، ولجوهرها النقي، ولم يغفل عن التركيز وبعمق على قضية المرأة، ففتح لها ميادين الحياة وأنعشها ببراديغما الأمة الديمقراطية، وأحيا فيها التاريخ الضائع، والمُحرَّف عبر مرتكزات تدعم ثورتها (ثورة المرأة)، وأهداها علم الحياة (جينولوجي)، وتنظيماً (مؤتمر ستار)، و قوة عسكرية (YPJ) فأصبحت مثالاً لنساء العالم وشعار jin jiyan azadi والذي أينع في أصقاع الأرض ليس إلا صدىً لنضال وكفاح المرأة عبر العصور، وأخيراً أقول للنساء، كل عام وأنتن الحياة وللحياة ذخراً، كل عام وأنتن بألف خير.