سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

عســكرة الـعـــــقائد

د. أنمار نزار الدروبي (أستاذ الفكر السياسي)_

كثيرا ما تستعمل كلمة أيديولوجية بالإشارة إلى عقيدة أو نهج ثابت في الفكر، وأحيانا تُطلق على أي شيء يمثل قيمة حيويّة ذات أهميّة كبرى، أمّا جذور المصطلح فهي تخصّ بنحو عام الأحزاب السياسيّة المختلفة في العالم، ومنهجها الأساسي في الممارسة السياسيّة وتحقيق الأهداف والانتصارات. لاسيما أن تشعّب النظريات أدى إلى إفراد علم خاص في العقائد والأيديولوجيات لتشمل جوانب متعددة. لكن المثير للجدل أن تُحشر الأفكار ضمن إطار المزايدة السياسية. وعندما تتجاوز الأفكار حدود الممارسة الفردية أو الحزبية لتعبر عن طبيعتها في عقيدة تشتمل على جملة أفكار شاذة عن الفطرة الإنسانية ومنطق الأشياء ومن ثم يتم عسكرة هذه الأفكار، تلك هي الكارثة! وهذا ما حدث مع النازية، والفاشية، والشيوعية، وما كرسته حركات الإسلام السياسي، فالخطر في هذه الحالة لا يقف عند حدود الفرد الدكتاتوري الذي تفرض عقيدته ظروف معينة تنتهي مع هلاك المجتمعات أو سقوطها وبالتالي هلاكه وسقوطه بسبب عسكرة العقائد واستهتاره بالقيم الإنسانية.
 وفقا لما تقدم، فإن مثل هذا الخطر يستشري كالوباء الذي ينشط متى وجد البيئة المناسبة لانتشاره، خاصة بين الأوساط الجاهلة بالحياة، والتي لا تُطيق التعاطي مع متطلبات التقدم الحضاري أو المدمنة على تحجرها الكهنوتي الوثني. لاسيما إن العقيدة والفكر بمفهومهما المتشدد ربما تصدر لنا الجهل والخرافات بعنوان ثوري، ولكي تنجز مشروعها أيا كان، فلابد أن تسوّقه بغلاف ثورات الشعوب.
تلك الثورات التي غالبا ما تكون دوافعها دينية وفق أي شكل من الأشكال، مسيحية، مسلمة، ملحدة، أو تحررية، ليبرالية، قومية، أيا كانت الاتجاهات والأفكار، بالمقابل فإن الشعوب تتطلع إلى الرقي الإنساني وتحلم بالتحرر من قيودها في مواكبة التقدم الحضاري بنزع الأيديولوجيات لإقامة أنظمة متحررة تتمثل فيه جميع المكونات القومية والطائفية بدون تمييز واستعلاء أو استئثار من قبل فئة على أخرى بموجب العقيدة.
في الوقت نفسه فإن تلك الأحلام ربما تتبدد وتتحوّل الى كابوس مرعب بمصادرة تطلعات الشعوب واستيلاء طبقة حزبية تحمل في طياتها أفكاراً وعقائد معينة، ومن خلال اغتصاب ومصادرة الثورة. وفي علم السياسة يتم التحكم بميول وأهواء البشر أو تقنينها وتصريفها ضمن أجندات لتحقيق أهداف محددة، وغالبا ما تدخل تلك الأهداف كعوامل في معادلة أوسع شمولية. وإذا نتعدى الغلاف لنبحث عن المحتوى سنجد الأفكار ذاتها تتلون حسب البيئة المحيطة فيها لتلبس ما تدغدغ به الأهواء والعواطف وبعض العقول المتحجرة. هذا بالتحديد ما جسدته النازية والفاشية سابقا على سبيل المثال لا الحصر.
إن سياسة النازية وسماح هتلر النازي أن يبيح لنفسه حرق الملايين من البشر على اعتبارهم حشرات أو كائنات دونية لا تختلف بشيء عما يسود عالمنا اليوم من أفكار متطرفة تكفيرية سوى إنها مقنعة بعباءة إسلامية. إنها الأفكار نفسها، والمنهل نفسه، والأصول بذات المنهج العنصري النازي الدموي. لكن التساؤل الأهم في كل ما ذكرناه، هل هنالك من يدير بشاعة ما يدور على مسرح الواقع البشري، ويستثمر تلك الأفكار والعقائد عسكريا وسياسيا بهدف الهيمنة الإمبريالية؟
من هنا أصبحت قضيّة صراع الأفكار وعسكرة العقائد أشبه ما تكون بالحرب الأهليّة لمن يدرس تعقيدها التاريخي ولا ترقى لأبعد من ذلك. وموضوع الأيديولوجيات ما هو إلا تنظير استخباري استعماري لتيارات مختلفة تم استجماع شتاتها من داخل وخارج المنطقة وفق مشروع يسمح بالتوسّع الجغرافي على حساب وجود مكونات أخرى، ويثير القلق الدائم والأزمات بما يخدم أهداف القوى الاستعمارية التي خططت له وتدعم وجوده، هذا هو الفارق الذي يلخص ثنائيّة مجتمعنا، كعرب، ومسلمين وما نزال نعيش ازدواجية، وكما تدعي شعوب عربية ومسلمة. حيث أن التناقض هو أحد أبرز سمات شعوبنا، شعوب فقيرة التجربة ومضطربة تتقلب في داخلها منذ تأسيسها من قبل الاستعمار.
 بدون أدنى شك إن الاستعمار لم يخرج من الشرق الأوسط رغم سلسلة الانقلابات العسكرية التي شهدتها دول المنطقة، وما رافقها من خدع الاستقلال الذي رتبته دول الاستعمار، نفذوا خلالها مسلسلات من السياسات المرسومة تفاصيلها بدقة وقائعها والنتائج المطلوبة منها ضمن استراتيجية عسكرة الأفكار، والعقائد بعيدة المدى لا تزال المنطقة تشهد كوارث ما ترتب عنها. إن الحقيقة التي تشهر نفسها كالبدر في تمامه هي سيطرة الأفكار والعقائد على أغلب دول الشرق الأوسط. من هذه الحقيقة سنفهم أن مجمل الصراعات تدخل في حيّز ترويض الشعوب، وتسخيرها وفق استراتيجية غربية طويلة الأمد تهدف الى تحقيق نظام عالمي يكون مركزه في الشرق الأوسط. بعبارة أكثر إيضاحاً، لا نملك إرادة مستقلة إلا بحدود ما يُسمح لها ضمن مساحة تُتيح الأفكار والعقائد أن تخدع شعوبها. ربما كان من الأنسب لأصحاب القرار ألّا يستغفلوا المجتمع ولا يقحموا الشعوب العربية في سخرية الأيديولوجيات، لكن مشاريع السياسة تختلف وتحقيقها يتطلب مراحل وأجندات لكل مرحلة بتفاصيل سيناريوهات مسبقة يتم تنفيذها أو تمثيلها على أرض الواقع.
قطعا لا توجد مشاكل بين الشعوب، فالعراقي والمصري الذي كانا ضحية للشحن السياسي ضد الاستعمار البريطاني، كانا ولا يزالان يحلمان بالعيش في لندن تحت ضلال تاج المملكة العجوز، لكنه بالمقابل يُرفض تدجينه ليكون عبدا حيال إلوهية العِرق الإنجليزي في وطنه.
حقا أن الحكمة الإلهيّة تمتحن غباء البشر وغفلتهم عن سر التقاء عقائد التوحيد الثلاثة في ثرى أطلال التاريخ، أما التلال والروابي والسهول فهي تحكي قصص الإنسانية بروعة صهيل خيول أقوام كانوا يتعانقون بالسيوف فيرحل بعضهم ويبقى آخرون.
مازالت شعوبنا أسيرة في قبضة مخططات السياسة الاستعمارية الخبيثة وهي عسكرة العقائد. لن تنتهي قصة صراع الأفكار والعقائد التي مزقت شعوبنا، فهي مأساة لا تزال مستمرة وسوف تبقى ما لم يتوقف الإرهاب العالمي بكل أشكاله وألوانه الذي يرسم البشاعة على جدران السياسة. في السياق ذاته متى يعي ساسة الغرب أن الهجرة التي تهدد نسيجهم الاجتماعي وتقذف إليهم القنابل البشرية أنها من صنع أيديهم كرد فعل عمّا يرتكبون من أفعال بحق شعوب الشرق الأوسط. “إن المكر السيئ يحيق بأهله” والسياسات الخاطئة تعقبها كوارث. لا شيء يستقر بدون توازن ولا يمكن تحقيق السلام إلا من خلال تغيير الأفكار المتطرفة.