مروة بريم-
الخروج أول الليل إلى الرصيف، عادةٌ كنت أدمنتها، حيث الحديقة في ملحق منزلنا والمتصلة مع الرصيف، أنظر شمالاً نحو أعلى شارعِ الفيلات المزدان بحوريات ضفاف نهر عفرين (شجيرات الدُّفلى)، وأنصِفُ نصفَه الآخر جنوباً بنظرةٍ اطمئنانٍ، فينزلق قلبي منحدراً نحو فتنةِ الجنوب.
خرجتُ عشيةَ القيامةِ، متجاهلةً التحذيراتِ من مغبةِ الخروجِ تحت القصف.
رأيتُ جراراً مركوناً في زاويةِ شارعٍ فرعي، وكانتِ المقطورةُ الحديديّةُ مكتظة، ومغطاة بمشمع بلاستيكيّ سميك، ليقيَ العائلة والأثاث نقمة المطر في العراء. أما الجنوبُ فكان غارقاً في العتمة، كغرابٍ قنصه صياد أرعن انتصاراً لعدوانيته.
بدأت المدفعية تستهدف المدينة، وراجمات الصواريخ تستبيح سماءها، فامتثلتُ لرغبة خالي بالدخول إلى المنزل.
قضينا تلك الليلة في الغرفة الغربيّة، كنتُ قد أخفيتُ نافذتها الكبيرة بخزانةِ ملابس صغيرةٍ، كانت تلك ليلتي الأخيرة في عفرين، ولم نعرفِ النومَ ولا الأمانَ طيلة الليالي الخمسة والخمسين، فهل سيزورنا في هذه الليلةِ اللعينةِ، التي نفترشُ فيها الشوكَ ونتوسدُ القلقَ.
في صباح اليوم التالي، وكان اليوم السادس والخمسين، الجمعة 16/3/2018 كنا على موعدٍ مع رحلةِ العذابِ. عندما خرجنا من المنزل، كان شارع الفيلاتِ يبدو كنهر الفرات، من شدةِ هطولِ المطر، وعفرين الحزينةُ تلطمُ وجهها كأم ثكلت أبناءها، لا شيء في الشارع سوى هرٌة تحاولُ اقتحام حديقةَ بيتي، لتختبئ بين شجيرات الخطمي، وبعض الجراراتِ والسياراتِ الملأى بالناس.
في طريقنا نحو عبارة الدكتور نيازي عمر – العبّارة مكان مسقوفة تصطف فيها الحوانيت والمحال – كانتِ المدفعية تقصفُ شارع صيدلية سيبان (sîpan)، والأدخنة تتصاعد أمامنا كأفاعٍ سوداءَ.
لم أستطع البكاء طيلة تلك الأيام، إلا عندما حانت لحظة الانطلاق، في تمام الساعة الحادية عشرة صباحاً، توقفتِ السيارةُ التي تقلنا على الجسر، لم أتمالك نفسي وأنا أرقب نهر عفرين والصفصافة الحزينة، ورائحة الشمال تزاحم أنفي، بكيتُ عندها كما السماء في يوم كانوني غاضبٍ مطير.
الساعة الخامسة مساءً كنا ما نزالُ عند دوار كاوا، ونحو الثامنة ليلاً وصلنا إلى قريةِ ترندة الملاصقةِ للمدينةِ، وفي العاشرةِ ليلاً توقفتِ السيارة قليلاً عند بحيرة عيندارة، استطاع أخي الأصغر أن يطمئن علي بالهاتف، كان القلقُ قد نال من أهلي جميعاً ليعرفوا مصيري.
ترجلتُ من السيارة لأستنشق هواء معشوقتي عيندارة، وكنت فيما مضى أصطحب بجعات قلمي، أجلس على ضفتها كتشايكوفسكي في مساءاتِ عفرين الصيفيّة الساحرة، وأعزف بعشقٍ على الكلمات.
لم أشعر بشيء وأنا أتأمل البحيرة المسكونة بالظلام، فجأة انطلقت السيارة لتسير على مشط قدمي، صرخت ملء حنجرتي حتى توقفت وعدتُ لأصعدَ إليها، وابتعدت عن عفرين بوجع وصرخة قلب مفجوع.
في وقت متأخر وصلنا باسوطة، كاتدرائية الرمان والكرز، لا شيء في قلب هذا الليل البهيم، سوى مشردين تحلقوا حول نارٍ مضرمةٍ باضطرابٍ من ريحٍ هوجاء.
لم أعرف هل كنتُ نائمةً مخدّرة، أم اختطفتني زبانية العالمِ السفلي، عندما رأيتُ أضواءً صغيرةً حمراء تتغامزُ في مكانٍ مرتفعٍ.
يا الله هل أرسلت ملائكتك للنجدة، هل سمعتَ دعوة أمٍّ عفرينيّة، فاستجبت لها! لم أستطعِ التمييز فترجلت من السيارة، وبي بعض الأمل، أخرجتُ هاتفي لأكتشفَ أنّها الخامسة صباح السبت، وأن تلك الملائكة التي تمنتها مخيلتي، لم تكن إلا الأضواء الخلفيّة للسيارات وهي تتدافعُ في منحدرٍ جبلِ الأحلام.. أين اكتشفنا أنّها كانت أضغاث.
بدأ الأفق يضع عُصابة اللجين على جبينه فوق ذرى جبل ليلون، واستعدت تفاصيل الكارثة، أدركت أنني كنت نائمة وبدأت تصحو مواجعي.
لن أحدثكم عن سحر باسوطة وحقول اللوز في محنة التهجير، فقد سحرني فلاح كهل، كان يقود جراره، ونبتة الخبيزة صامدة في الوحل العالق بأسنان محراثه القادم من قرى عفرين، انحنى خلف المقود نحو طفل يسير على الطريق وابتسم يرسم إشارة النصر بإصبعيه المكتنزين.
ومن جهة أخرى تمزقتُ أمام عجوز طاعن في السن والخيبة، كان يجلس في مقطورة إحدى الجراراتِ يأكلُ رغيفاً عفناً وهو يبكي.
نظرتُ إليه وقلتُ: كُلْ خبزكَ العفن أيُّها الكرديُّ المغبون.. فأعداؤك كُثُر كُثُر.
بعد ثلاث وثلاثين ساعة، في طريق كنا نقطعه في ربع ساعة، قطعنا جبل الأحلام، تاركين خلفنا باريس الكرد، تتنقب وترتدي جلباباً أسود
