تهبُّ رياح الصحراء العكرة برمال متنوّعة الجهات، على مضارب القوم؛ فتولد قصص وحكايات، بتنوع رياح الصحراء الممتدة في الجزيرة العربية، وهناك بين المضارب أميرٌ قد حاز جاهًا ورفعة بين قومه، وكانت عنده ابنة اسمها “دعد” فائقة الجمال، والصِّيت، مثقفة وشاعرة، فتنتقي أجود الألفاظ، وأعذبها في الشعر والكلام، حتى فُتن بها سكان الصحراء والحضر، وحينما أراد أبوها تزويجها، تقدم لها كل من حلَّ وارتحل، لكنها وضعت شرطا لذلك، أن يُقال في وصفها شعرٌ لم يقل بعدُ، حتى بلغ الخبرُ شاعراً من نجد اسمه دوقلة المنبجي، وهو شاعر مجهول، لكن لفظه حسن، وغزله مثير، فألَّف قصيدة طويلة سُمِّيت “اليتيمة”، وحين انتهى منها؛ شدَّ الرحال نحو أمير نجد، وسار فجرًا للقاء به، حتى يُلقي قصيدته على أسماع دعد، والأمير، وهو في طريق الحبِّ الحثيث، لقيه إعرابي من سكان الصحراء؛ فسأله عن وجهته، فقال أريد ابنة الأمير خاطبا، فسأله الإعرابي، أوَ تعرف شرط خطبتها؟! أجاب دوقلة: نعم! فوضع الإعرابي كل يمين محرجة، أن يسمعه ما قال في دعد. فقال قصيدته العصماء في حب دعد، فأُعجب بها الإعرابي أيَّما إعجاب، فظلّ الإعرابي يطلب من دوقة تكراراها حتى حفظها، وفي ليلة ظلماء، وهما في الصحراء، قتل الإعرابي دوقلة، وقصد دعداً والأمير، ليقرأ عليهما القصيدة الغزلية، وحين سمعتها دعد؛ أعجبت بها كل الإعجاب، لكنها عند وصول الإعرابي إلى هذا البيت:
إِن تُتهِمي فَتَهامَةٌ وَطني
أَو تُنجِدي يكنِ الهَوى نَجدُ
تشاغل ذهنُ دعد، ولم يغب عن بالها، أن الرجل ليس من تهامة، ولا من نجد، ولا شيء في لهجته يدل على ذلك، ثم أرادت أن تمتحنه أكثر فقالت له: زدني أيها الشاعر بيتا واحدا، فقد رأيت فيك الغزل اللطيف، فعيَّ الرجل، وعجز عن أن يأتيها ببيت جميل على نمط القصيدة، فقالت لحراسها: قيَّدوا هذا المدّعي الكذّاب، فإنه قتل صاحب القصيدة، ومبدعها، وسرقها، ولو جاءني صاحبها حيا لقبلت به زوجاً، فتعجَّب والدها الأمير من ذكائها، وحسن معرفتها بالأشعار، وظلت حزينة طوال حياتها على دوقلة، وقد سمّيت القصيدة “اليتيمة”، لأن الشاعر دوقلة لم يقل غيرها، وقيل، إنها لا شبيه لها في الشعر العربي من الحسن وقوة السبك، وأداء المعاني وسلامة الوصف وسلاسة صوغها. وقد كان سحر الكلام، وبلاغة التصوير، والغزل، أسباب مقتل رجلين، كانا قد غُرما بامرأة واحدة، فيما يبقى سرُّ الحبِّ، وميزانه في القلوب، وفي العميق من النفوس.
وهذه بعض من أبيات القصيدة، التي قالها دوقلة في حبِّ دعد: