سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

إفريقيا… بلاد الثروات غارقة في الفقر والاحتلالات

حمزة حرب_

القرن الثامن عشر وما تلاه من أعوام وعقود، عكفت فيه الدول الطامحة في التوسع والاستعمار إلى التوغل في القارة الإفريقية، بعدما أيقنت هذه الدول، أن إفريقيا بلد تطفو وتعوم على بحار من الثروات الباطنية والسطحية؛ لذا بات البحث عن المصالح يأخذ طابع التقاسم أحياناً، والصدام الصامت أحياناً أخر.
 الدول الأوروبية على الرغم من التوافق فيما بينها داخل القارة العجوز بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنها لطالما كانت مصالحها تتضارب في إفريقيا، الأمر الذي تطلب عقد مؤتمر برلين لتحديد مناطق نفوذ كل دولة في إفريقيا، وكأنما القارة السمراء حملٌ وديع تقطع الذئاب أشلاءه، ومع أن هذا الدول الاستعمارية حصلت على مكاسب كبيرة اقتصادياً خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلا أنها كانت دوماً تطمح للهيمنة السياسية الناعمة بعيداً عن فرض السيطرة التقليدية بالجيوش والعسكر، وهذا ما وضع القارة الغنية اقتصادياً تحت وطأة الفقر والعوز؛ لأن خيراتها لدولٍ لم تعر اهتمام يوما إلى مستقبل الشعوب الباحثة عن لقمة عيش على أرضها، لذا كانت دول الهيمنة تسعى جاهدة لإغراق القارة بالجهل والعنصرية، التي استطاعت تحطيم هذه الأدوات فـ”إفريقيا نيلسون مانديلا” شقت طريقها نحو التحرر الفكري لكنها بقيت مقيدة بأغلال الأطماع الاقتصادية والجغرافية.
إفريقيا الحضارة والثروات
لقد امتازت القارة الإفريقية، حسب مؤرخين، بحضارتها وتنوعها الجغرافي والديمغرافي وحتى الأديولوجي والعقائدي على رقعة جغرافية تقدر مساحتها بنحو 30 مليونا، و750 ألف كيلو متر مربع، ويقطنها أكثر من مليار و400 مليون نسمة، وبذلك تعد ثاني قارة بعد قارة آسيا من حيث المساحة وعدد السكان، وحجم ناتجها المحلي نحو تريلون ونصف الترليون دولار، ويصل مجموع تجارتها مع العالم نحو 934 مليار دولار، وتكمن داخل هذه المساحة ثروات هائلة ومتنوعة “مائية وزراعية وسمكية ومعدنية وطاقة”.
إفريقيا أيضاً لا يجب إغفال أنها تشكل خزان العالم من الموارد الأولية التي يشتد الطلب عليها في ظل التنافس العالمي الشديد بين الدول الكبرى المستهلكة لهذه الموارد، وتقلص نسبة الاحتياطيات العالمية منها، ومعدلات الإنتاج المتزايدة عالميا، وهو ما يمثل أحد أهم المحفزات لهذا التدافع الدولي المحموم على القارة الغنية. حيث تمتلك إفريقيا “حسب ما هو معلن، وما خفي أعظم” فهي تملك ثلث ثروات العالم المعدنية، و65% من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم، وتمثل الثروات المعدنية بالإضافة إلى النفط والغاز كما أنها تمتلك ما يقدر بـ 30% من احتياطيات العالم من اليورانيوم وتساهم بإنتاجه بنحو 15% من الإنتاج العالمي، وتنفرد بإنتاج نحو 70% من الذهب حول العالم، ويكمن في جوفها نحو 40% من احتياطيات العالم منه.
كما تتربع على نحو 90% من احتياطيات البلاتين العالمية، وتنتج نحو 75% منه، أما الكوبالت فهي تحوي نحو 30% من احتياطيات العالم، وتعطي نحو 76% من الإنتاج العالمي من هذا المعدن الهام.
ويشكل النحاس الإفريقي نحو 40% من احتياطي العالم، ونحو 33% من الإنتاج العالمي، كما تكتنز أرضها نحو 95% من احتياطيات العالم من الألماس، وتساهم بنحو 50% من الإنتاج العالمي، وتمتلك القارة نحو 15% من احتياطيات العالم من الحديد وترفد العالم بنحو 9% من الإنتاج العالمي منه، وتحتوي على نحو 12% من احتياطيات العالم من النفط، ونحو 10% من الاحتياطيات العالمية من الغاز.
من هنا نستطيع فهم ما يجري في إفريقيا اليوم من أحداث وتحولات استراتيجية، فلا غرابة إن كانت القوى الاستعمارية تتسابق وتتصارع على هذه الكنوز، حيث اتضح جليًا قوة هذا التزاحم في أواخر القرن التاسع عشر، حين قامت الدول الأوروبية بحملة كبرى، واحتلت مُعظم القارة عندما تعرضت إفريقيا خلالها لأكبر حملة من النهب المنظم للثروات من المستعمرين الذين ابتدعوا تجارة الرقيق، التي قامت عليها الثورة الصناعية في أمريكا وأوروبا، وأجبر السكان على العمل “سخرة” في المناجم والأراضي المملوكة للمستعمرين، الذين تعاملوا مع سكان البلاد الأصليين بعنجهية، وتعالٍ وعنصرية فجة، واستمر الحال هكذا إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث حصلت الدول الإفريقية على استقلالها تدريجيًا، لكن الاستعمار تركها أكثر القارات فقرا وتخلفا.
لعنة الثروات بقيت تلاحق الأفارقة إلى يومنا الحاضر؛ لأنها تكاد لا تفارق خيال الحالمين والطامعين والغزاة والمُغامرين، وقد تعرضت عبر تاريخها الطويل لغزوات ونكبات تُعد ولا تحصى، ربما أشهرها تلك المعروفة بالتدافع على إفريقيا أو السباق نحو إفريقيا منذ القرن التاسع عشر، وحتى يومنا الحاضر لا تزال الـ 54 دولة إفريقية مستقلة شكلاً تكافح الشعوب فيها من أجل الاستقرار والتنمية والتطور ونفض غبار وتركة الدول المستعمرة التي ربطت اقتصادات وثقافات مستعمراتها باقتصاد وثقافة ولغة وفكر تلك المستعمرات.
إفريقيا في عالمٍ متعدد الأقطاب
مع بروز لاعبين جدد يحاولون الهيمنة، تراجع الدور الغربي ” الأوروبي – الأمريكي- البريطاني” في القارة الإفريقية، وذلك حسب ما يفسره خبراء يعود لصعود دول منتجة ومصنعة باتت تبحث عن مصالحها في الثروات المنتجة من إفريقيا مع تقديم مغرياتٍ اقتصادية لا ترقى لمستوى الاستقلال الاقتصادي، واتخاذ القرار الوطني لذا بدت حالة الصراع تحتدم في القارة الإفريقية بين الشرق “الصين – وروسيا” من جهة والغرب من جهة أخرى وكعادتها دولة الاحتلال التركي تقتات عل الفتات المتناثر من حلبة صراع الفيلة.
فالصين وروسيا، ودول أخرى استثمروا في حاجة إفريقيا إلى الدعم فقدموا عروضا تتسم بالمشاركة في المنافع، وتقاسمها مع أصحاب الثروة، إضافة إلى النهوض بالبنية الأساسية كبناء الطرق والمطارات والموانئ والسكك الحديدية، وبناء المدارس والجامعات، ومعاهد التدريب المهني ونقل التكنولوجيا، وبناء المستشفيات في تعبير عن نوايا التعاون والصداقة مع الشعوب الإفريقية، لكن خبراء يشككون في أن تكون هذه النوايا صادقة ويعزونها إلى جزء من التنافس الدولي للسيطرة على إفريقيا وجزء من الحرب الدولية الصامتة التي تخاض على العكس تماماً مما يمر به الشرق الأوسط، الذي يمتاز الصراع عليه بكثيرٍ من الضجيج والصخب.
فهذا الضجيج يحرف الأنظار عما تمر به إفريقيا، التي توسعت فيها دائرة النفوذ والسيطرة للاعبين الجدد، الذي يبدو أنه يأتي على حساب النفوذ الأورو أمريكي، وما الأحداث الأخيرة التي حدثت في دول غرب إفريقيا وسلسلة الانسحابات، التي نفذتها فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا وبعض الدول الأوروبية من مواقعها، التي تشبثت فيها لسنواتٍ طوال داخل إفريقيا إلا مثال على هذا التحول الاستراتيجي في التوجه الدولي.
دولة الاحتلال التركي سارعت للاستثمار في السخط الإفريقي العارم تجاه فرنسا لتقتات على فتات هذا الصراع تحاول أيضاً فرض نفسها كلاعبٍ مساوم في القارة الإفريقية خصوصاً عقب المشاكل السياسية التي تمر بها المنطقة منذ 2020، سعت دولة الاحتلال إلى محاولة السيطرة العسكرية من خلال عقد اتفاقيات تجارية واستثمارات بملايين الدولارات لتكون شريكا حاضراً في أهم مناجم العالم للمواد الخام محاولةً مزاحمة روسية في ذلك وبالآليات نفسها، وهي إرسال المرتزقة المأجورين للقتال هناك.
المرتزقة… بنادق مأجورة للهيمنة والسطوة
روسيا وعلى الرغم من انشغالها بالأزمة السورية، وما تبعها من حربٍ ضروس  في أوكرانيا، لكنها لم تغفل عن ضرورة فرض تواجدها، وخلق موطئ قدمٍ لها داخل إفريقيا كان آخر هذه الجهود هو تشكيل عسكري روسي تحت مسمى “فيلق إفريقيا” والذي يخضع لإشراف مباشر من الجنرال يونس بك إيفكوروف، نائب وزير الدفاع الروسي حيث تم الكشف عن هذا الفيلق، الذي قدر قوامه بين الـ 40 ألفاً و 45 ألف عنصر، مطلع عام 2024 ليكون بديلا عن مجموعة “فاغنر” الروسية الخاصة، ويعكس هذا البرنامج سعي روسيا لتوسيع نفوذها العسكري في القارة، ومنحه شرعية الوجود الرسمي والعلني في مواجهة الحضور الأوروبي والأمريكي.
الفيلق توزع بين خمس دول إفريقية تحظى باهتمام دولة الاحتلال التركي التي تزاحم هذا التواجد أيضاً في الدول ذاتها، وهي “ليبيا وبوركينا فاسو، ومالي وجمهورية إفريقيا الوسطى، والنيجر” وكلا الفريقين المرتزقين التابعين للدولتين هم من الجنسية السورية، فكلا الدولتين تعاملا مع السوريين بحرف بوصلة تحركاتهم داخل سوريا لتحقيق أطماع خارجية مستغلين الواقع المعيشي في مناطق تواجدهم داخل سوريا للتجنيد برواتب مغرية مقابل القتال في إفريقيا، وفي معظم الأحيان يكون المصير الحتمي القتل والعودة إلى سوريا جثث هامدة.
ليبيا كان لها النصيب الأكبر من التزاحم الروسي التركي لإنشاء قواعد عسكرية للقيادة والتحكم بالمرتزقة لعدة عوامل على رأسها الارتباط المباشر بساحل البحر المتوسط، وهو موقع استراتيجي لضمان خطوط الإمدادات العسكرية، وتحركات العناصر التابعة لكلا الجانبين إلى الدول الإفريقية الأخرى.
بينما دولة الاحتلال التركي اتبعت استراتيجية توقيع اتفاقيات أمنية مع كينيا وإثيوبيا، وأوغندا وتنزانيا، وليبيا والصومال بهدفٍ معلن هو تدريب قوات الأمن في هذه الدول بينما الهدف الحقيقي هو السيطرة على موارد هذه الدول لغرضين، الأول تمويل صناعاتها العسكرية التي تمكنها من خوض حروب التوسع في المنطقة، سيما وأن اقتصاد دولة الاحتلال التركي يتهاوى في الآونة الأخيرة؛ ما دفعها إلى زيادة صادراتها العسكرية إلى إفريقيا لتأجيج حالة الصراع، الذي تقتات عليه بنسبة وصلت إلى حدود الـ 328 مليون دولار.
فهذا الاهتمام الذي تبديه دولة الاحتلال ليس وليد اللحظة فمنذ العام 2005 أصبحت أنقرة عضواً مراقباً في الاتحاد الإفريقي، وأعلنت في العام نفسه خارطة جديدة عنوانها “الانفتاح على إفريقيا” لتصبح الدول الإفريقية ضمن الأهداف الرئيسية للسياسية الخارجية لدولة الاحتلال وزاد نشاط هذه الخطة مع تنامي الفكر التوسعي، والأحلام العثمانية في مزاحمة الدول الفاعلة حول العالم واقحام نفسها في حروب لا طائل منها.
لكن الانقلاب، الذي وقع في النيجر قد يخلق مشاكل كبيرة من حيث الأمن الإقليمي، حيث تشترك النيجر في حدود طولها 1500 كيلومتر مع نيجيريا، كما أنها جارة لدولة بنين، وعلى تقاطع البلدان الثلاثة توجد مرتزقة داعش، التي تنشط في ظل عدم الاستقرار، الذي تستثمر فيه أيضاً دولة الاحتلال التركي من خلال تقديم الدعم والامداد بالمرتزقة والعتاد، وهذا من شأنه أن يؤثر على شمال إفريقيا وغربها، وقد يشكل هذا الوضع تهديدا وجودياً ليس فقط لإفريقيا إنما لكل الدول التي تحاول الحفاظ على مصالحها في هذه القارة، وخلق بيئة مناسبة لتحصيل مصالح أكبر فيها.
سياسات أممية مجحفة
فتوجه هذه الدول نحو إفريقيا خلق بعض العقبات والتحديات، وفق ما نشره المركز الديمقراطي العربي في دراسةٍ أجراها المركز، بأن هذه التدخلات خلقت حالة من انتشار الصراعات الدينية والعرقية، وفاقمت من حجم النزاعات المسلحة والصراعات الحدودية، التي أثرت في الدول الإفريقية على الأنظمة السياسية الحاكمة، وظهرت حالة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، والاقتصادي في الكثير من البلدان.
بينما يعدُّ مَن أفسح المجال أمام هذا التنافس والتدخل هو الإهمال الدولي لهذه القارة باتباع سياساتٍ خاطئة من خلال التضييق على الأفارقة، والمجتمعات المتواجدة هناك معيشياً ما دفعهم إلى فتح أبواب بلدانهم للدول الطامعة بخيراتهم، وهو ما أبقاهم في بوتقة الجوع والعوز.
فعلى سبيل المثال لا الحصر كانت سياسات صندوق النقد الدولي المجحفة، حسب مختصين، كونها زادت الأمور سوءًا وفاقمت الديون الإفريقية، وزادت نسبة الفقر لتبلغ مستويات مروعة ما أسهم في تفشي الأمية بين سكانها، وفسحت المجال لأن تفتك بهم الأمراض والجوائح، وتزداد معاناتهم.
ففي الوقت، التي تتزاحم جحافل الدول الطامعة بثروات إفريقيا تتزاحم سواحل البحر المتوسط وشواطئه باللاجئين الفارين من جحيم الوضع الراهن، الذي فرض عليهم في أرضهم في رحلة عنوانها الموت غرقاً في طريق الهجرة أو جوعاً على أرض الوطن المليء بالخيرات، فلا خيار ثالث فهم يغامرون بأنفسهم من أجل لقمة عيش لا تكاد تسد رمقاً، ولربما يدرك الكثير من سكان إفريقيا، أن بلدانهم تقبع فوق ثروات وكنوز هائلة، ولكنهم لا يجدون لها في حياتهم أثرا وقيمة وتخلصا من هذا الواقع الفقير.