سَيِدِيِ مِعبِدّْ…….كرامات من خيال

محمد عاطف (كاتب وشاعر من مصر)-

سيدي “مِعبد” شيخ جليل ما زال أحد أحفاده يَقُطُّنّ بقريةٍ تَبعُد عن قَريتنا قليلًا، وقد جَمعني القدر به عند أحد الأصدقاء ومن ثَمَ تعارفنا، فهو إنسان بسيط وعَفَويً تعلو وجهه طِيبة ممزوجة ببراءة تَسبُغها فِطرة ساذجة ومُولَع بموالد الأولياء والصالحين، يحمل بجيبه نوتة صغيرة مُدون بها تواريخ إحياء الموالد، ولقد زارنيِ هذا الحفيد ببلدتي منذ أكثر من عِشرين عامًا وكان يجلس معي آنذاك صديق لي يُدعىَ “عَشري” وهو شَخص مَرِح خَفِيف الظِل مُتَندِّر مُحب للفُكاهة والمِزاح و(حِوَارتَجِيِ)، وشجع الحفيد ليروي لنا عن جَده كَيف تُوفىَّ؟ وعن كراماته ذائعة الصيت، فالتقط الحفيد الخيط ثم استرسل في سرد مَشهد تَشييع جُثمان جده الذي لا مَثيل له حيث وصل عدد مُشيعي الجِنَازَة أكثر من ألفي شخص أتوا مِنْ كُلِّ حَدَبٍ وَصَوْبٍ مُشاةً ورُكبانًا وفي تلك الأثناء والنعش محمولٌ على الأكتاف فجأةً طَار النعش!!!! فضج المُشيعون بِعَاصِفَةٍ مِنَ الْهُتَافِ والتَكبير فَهبِط النعش الطائر عائدًا على الأكتاف مَرةً أخرىَ بسلام!!!. وتكرر ذلك حوالي خمس مرات!!!.

وفي كل مَرة طَيَرَان كان المُشيعُون يتوقفون وتأتي الناس بالمصاحف من البيوت والمساجد ومن ثَمَ يضعونها على الجُثمان ثم يُؤدي الجميع صلاة الجنازة مرةً أخرى، فسِيدي “مِعبد هو الوحيد” الذي تمت صلاة الجِنَازَة عليه خمس مرات!!. وبلغت أعداد المصاحف التي وُضِعت بالنعش ورافقته حتى مثواه الأخير أكثر من مائة مصحف، وبعد وفاته زار أسرته بالمنام وأخبرهم أنه دخل الجَنة ومعه فُلان وفُلان من أقرباءه ومُريديه، وإذا بصديقي عَشري مُقاطِعًا للحفيد مُؤَمْنًا ومؤيدًا ومؤكدًا أنه سمع عن كل ذلك من قَبلْ، بل وصار مَلكيًا أكثر من المَلِك، وأخبرنا أنه شاهد سيدي مِعبد شخصيًا وهو يقوم بالزيارة كل لَيلَةْ جُمعة لبعض أضْرِحة العارفين بالله بالزِمَام ثُمَ يعود لقبرة قبل آذان الفجر، فإذا بالحفيد يَبتلع ريقه ويأخذ شهيقًا عَبيريًا وينتشي مَزهوًا مُفَاخِرًا سعيدًا ومسرورًا بتلك (الإفتِكَاسة) التي هي من إعداد وتقديم وإخراج عشري، ومن ثَمَ بادرنا الحفيد فورًا بدعوتنا للانضمام لحلقة الذِكر بالحضرة التي سوف تنعقد يوم الجمعة القادمة ونتناول معه طعام الغداء، فيمضي عَشري سَادرًا في غَيه ويُخبر الحفيد بأن سِيدي مِعبِد أتاه بالمنام ليلة أمس ليدعوه لتلك الحَضرة !! فيهز الحفيد رأسهُ مُتهللًا واثقًا مَزهوًا وتعلوُ وجهه ابتسامة عَريضة آمنةٌ مُطمَئِنة و يَهِمْ باحتضان عَشري مُقبلًا رأسه وكِلتا يديه قائلًا له لقد آن أوانك لتأخذ العَهد يا شيخ.. أنتظرُكْ.

ثُمَ انصرف مودعًا وهو يؤكد بإصرار لابُد أن تأتي يا شيخ عشري ومعك محمد عاطف!! وبالفعل ذهبنا بميعاد الحَضرة وبإلحاح من عَشري علي، وكان في شرف استقبالنا الحفيد وهو سعيد  مَسرور لتلبية دَعوته، وأصبح الشيخ عشري بالمُقدمة ومحط الاهتمام!!!، ودخلنا حَلقة الذِكر وإمعانًا من عَشري في المُبالغة المُفرطة، أخذ يُتمتم بذكُر الله ويَتَطُوح بجسده يمينًا ويسارًا لِتُحَلقْ رُوحه كبقية الدراويش، وفجأةً سقط على الأرض مَغْشيًا عليه وهو بحلقة الذِكر فتعالت التكبيرات ورفعوا صيغة الآذان في أذُنه، وقد طلب الحفيد من جميع الحاضرين بترك الشيخ عَشري، قائلًا أنه الآن في حضرة الجَلالة وسيدنا النبي، وبعد انتهاء حلقة الذِكر بالحَضرة وتناول وجبة الغذاء، جلس معنا الحفيد ونحن نحتسي أقداح الشاي ونَنْفُثْ دُخان الشِيشه (الأرجيلة)، ودعانا لسماع كَرَامَة عن جدة من أحد شهودها العَيان والذي ما زال حيًا يُرزق، وأشار بيدهِ ناحية رَجُلٌ طاعن بالسِن كَثُّ اللِّحْيَةِ فِضية اللون يَعْتَمِر عِمَامَةٌ كبيرة خَضراء وبيده عصَا يتوكأ عليها خضراء اللون وأخبرنا أنَّه الشيخ صالح، وألحقنا بجواره وَتَرّجَاهُ؛ فَضلًا سَيدنا فلتَقُص على هؤلاء المُحبين ماذا حدث معك من جَدي، فصمت الشيخ فترة، وأخبرنا الحفيد بأنه الآن ينتظر الإذن، وقد ذهب الشيخ ببصره بعيدًا في تَطَلُّعٍ وَتَرَقُّبٍ وهو يُتمتم بِخِشُوع ثم قال بصوت خَفيض مَصحوبًا بابتسامة رَقيقة سَمعونا الصلاة والتسليم علي حضرة سيدنا النَبِيْ وقراءة الفاتحة ثم قال الفاتحة على رَوح مولاي وسَيَدِي مِعبد فقرأنا وصَدَقْنا، ثم أخبرنا أنه وأثناء وضع سِيدي مِعبد على الْمُغْتَسِل، قد تناول إبريق الماء كي يَصُب على يَدي المُغسِّل المُوصى له بالتَغسِيل، فإذا بسيدي مِعبد وهو مُتمددًا مَيتًا على الخشبة يرفع يده من جنبه صَافعًا الشيخ صالح بـ “القلم” على وجهه !!! قائلًا له ألَا تستحي يا صالح كونكَ تقف على غُسلي وأنتَ لستَ علىَ وضُوء!.

فلم أتمالك نفسي من الضَحِك المَكبوت وجسدي كله يَهتَزْ مُدَعِيًا أنني مُنبهرٌ، وإذا بعَشري مُتمالكًا وواثقًا ولم يهتز ويقول أكيد يا شيخ صالح أنك تركت اثرا…نَقْضْ وُضُوءَكْ واحسه الشيخ معبد…. وتلك كَرَامة أخْرىَ…..

من سلسلة “ذكريات”