رؤية لمنبج للخروج من قوقعة الأزمات إلى فوهة الانفراجات

آزاد كردي

منذ أيام قليلة أُعلِن عن إضراب في مدينة منبج، بدعوات من مواقع العالم الافتراضي أو لمن يحب تسميتها بمواقع التواصل الاجتماعي، ولسنا في محل للبحث والتنقيب من أطلقها أو حتى من يقف وراءها؟، وإنما نقوم بدور الباحث المستقصي فحسب، وإذا اختلفنا في التسمية من باب الطرافة، فإنه ينبغي أن يقودنا مرة أخرى للاتفاق على كون ما حدث هو أمر جليل وهام ويستحق الوقوف عليه ولو بالحيز القليل من الوقت لأنه حدث نوعي، بمعنى أنه لا يحدث العديد من المرات أو في مناسبات برتوكولية يعد لها مسبقاً، ولذا فلنتفق بأن ما قبل الحدث من مخاضات وتقلبات ليست كما بعده من انفراجات بحيث يترتب عليه تبعات وانعكاسات سنأتي على ذكرها لاحقاً.

ولنتفق أيضاً أن مدينة منبج بسكانها الطيبين وجغرافيتها الفيحاء ونهرها العظيم ونباتها الوارف الظليل تختلف عن كل المدن السوريّة الأخرى، فهي تملك خصوصية لا يعرفها إلا من خبرها وعاش على ثراها الخيّر، ولا أجد في هذا البنان إلا ما ذكره المسعودي في “مروج الذهب” أن هارون الرشيد اجتاز ببلاد منبج ومعه عبد الملك بن صالح وكان أفصح ولد العباس في عصره، فنظر إلى قصر مشيد وبستان معتمر بالأشجار كثير الثمار، فقال: لمن هذا؟ فقال: هو لك ولي بك يا أمير المؤمنين، وقال: كيف بناء هذا القصر؟ قال: دون منازل أهلي، وفوق منازل الناس. قال: فكيف مدينتك؟ قال: عذبة الماء، باردة الهواء، صلبة الموطأ، قليلة الأدواء، قال: فكيف ليلها؟ قال: سحر كله، انتهى كلام المسعودي. وإذا وسعني المقام هنا، فربما أزيد عن ذلك بأن لكل منطقة من سوريا أن تتخذ إحدى بلداتها سكناً بغية أن تكون عزبة أو منتجعاً، ولمن تشق عليه هذه اللفظة، فقد جرت العادة في الشام أن يخرج أناسها للاسترواح إلى الغوطة وأما في الساحل يخرج أناسها إلى صافيتا أو صلنفة أو مشتى الحلو وأما في الشمال السوري الفسيح، فوالله لا أجد غير منبج لهذا السمت.

إن منبج منذ خروجها عن سلطة حكومة دمشق وحتى هذه اللحظة إلى فترة قريبة من إعلان الإضراب، تمر بحالة من التقلبات السياسية ونوبات من المزاجية في العقل الجمعي الذي يصعب فهمه أو تدارك مواقفها المتخبطة التي تفاجئنا بين وقت وآخر بقيامها بانتفاضة أو بإضراب عام مثل الذي حدث منذ أيام أو فقدان لإحدى مواد الغذائية الأساسية كالسكر أو رداءتها مثل الخبز أو قلتها كالمحروقات وغيرها، ولفهم ما حدث بالفعل ينبغي أن نقر بأن الإضراب في كل دول العالم مكفول لا بل تقره القوانين التشريعية المدنية الديمقراطية كونه يعبر عن رأي إزاء أمر أو شيء أو سلوك أو إجراء وهو رسالة موجزة يراد إيصالها بطريقة أو بأخرى لجهة ما. ولنبحث في القضية من زاوية أخرى ليس من قبيل أن منبج نفذت إضراباً أو عصياناً مدنياً وتبعه الحدث على هذه الشاكلة ثم اقتضى الحال أن ترتب عليه عدداً من الآثار المختلفة، ومن هنا أريد أن أخوض بعيداً من حيث ضرورة أن نفسر ما حدث لا كما وقع؟ ولما حدث؟

ووفقاً للسياق المتشابك، واستجلاء للحقيقة ينبغي البحث في ترتيب المشهد وفق خطوطه العريضة كما كان وليس كما يكون، وانطلاقاً من ذلك سأورد بعض النقاط أو رؤية لما حدث، وفق السيناريو الآتي:

1. كما أسلفت بأن منبج كانت كغيرها من المدن السورية الأخرى التي كانت إبان حكومة دمشق ليس لها من الأمر شيء في الحياة السياسية حيث جرت العادة منذ عقود ألا يستطيع أحد التحدث بالسياسة من قريب أو بعيد بسبب شدة القبضة الأمنية وقد زج بالبعض في السجون أمثال؛ حسن النيفي أو محمد منلا غزيل وغيرهم، ولذا حين منح لها مناخ من الحرية أو مساحة لتبادل وجهات النظر والرأي في الوقت الراهن جرى فهمه على نحو خاطئ من السكان، ومن المثال على ذلك حين سيطر مرتزقة داعش على مدينة منبج عمد إلى سياسية تكميم الأفواه وقمع الخصوم بالقوة، وهو ما يؤكد هذه الرؤية.

2. حرياً بالسكان أن يتعلموا درساً -وأن يقبضوه كجمر بيدهم- في الحفاظ على الأمن والاستقرار التي تشهده منبج فمنذ عشر سنوات ورحى الحرب تفتك بالسوريين هنا وهناك داخل سوريا أو خارجها دون نهاية، فألمانيا بعد عشر سنوات من الحرب استطاعت الخروج من النفق المظلم بتعلمها الدرس والنهوض بواقعها السياسي والاقتصادي حتى باتت من أقوى اقتصاديات أوروبا، لذا وبدلاً من خوض السكان في سياسة الإضراب كان الأجدى العمل والتكاتف مع السلطات المحلية التي تعمل من أجل ضمان الأمن والاستقرار بالتزامن مع إطلاق عملية البناء والتطوير.

3. في المقابل من ذلك، ينبغي عدم تحميل كل اللوم على السكان الذين يعيشون أوقاتاً صعبة في ظل تراجع سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار ناهيك عن فرض عقوبات اقتصادية على سوريا بما فيها المناطق التي تديرها الإدارة الذاتية، وإغلاق المعابر التي من شأنها إدخال المساعدات الإنسانية الدولية، وبالتالي أي مطالب تصدر منهم، فهي مشروعة وينبغي أن تؤخذ بالحسبان، وإذا كان الحال كذلك، فماذا يترتب على الإدارة الذاتية تنفيذه للحيلولة دون حدوث إضرابات أخرى أو فوضى في المستقبل. هناك عدد من التوصيات يجب الأخذ بها على شكل “خارطة طريق”، يمكن إجمالها وفق الآتي:

1. منهم، فهي مشروعة وينبغي أن تؤخذ بالحسبان، وإذا كان الحال كذلك، فماذا يترتب على الإدارة الذاتية تنفيذه للحيلولة دون حدوث إضرابات أخرى أو فوضى في المستقبل. هناك عدد من التوصيات يجب الأخذ بها على شكل “خارطة طريق”، يمكن إجمالها وفق الآتي:

2. تقوية الأحزاب السياسية التي تعتبر بمثابة حكومة ظل من حيث تقديمها لبرامج عمل سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ومن ثم تتمتع بقدر كبير في استقطاب كل فئات الشعب إلى هذه البرامج الآنفة الذكر، فتكون قنوات التواصل مع الإدارة الذاتية من خلال الأحزاب وليس من خلال الإضراب؟

3. اعتماد نظام التقانة والحوكمة الرشيدة كسبيل للخروج من كاهل البيروقراطية الذي أثقل النظام الإداري وبالأخص في سياق المعاملات الرسمية، فبدت الدوائر والمؤسسات الإدارية عاجزة ومقيدة وغير متوازنة مع متطلبات العصر المعرفي والتكنولوجي.

4. تقوية دور الإعلام الذي بقي في الظل ولم يخرج من عباءة الفوضوية المفرطة والعمل العبثي ولم يحاول الانتقال والتحول إلى الدور التوجيهي والرقابي والدفع بالمؤسسات إلى بذل أقص درجات المهنية والنزاهة.

5. الاستناد إلى نظام السوق الحرة في الاقتصاد وعدم تبني سياسة تنمية الرأسمال القائم على الاعتماد على الموردين لإدخال السلع والبضائع الأمر الذي يكرس نفوذهم وتوغلهم في البحث عن الربح الأعظمي وليس المنظور أن يصب الاهتمام والدعم للاقتصاد الوطني، أضف إلى ذلك، إنشاء منطقة صناعية وتجارية تكون دعماً في توفير فرص عمل وارتفاع الناتج المحلي.

6. إنشاء مركز دراسات وأبحاث سياسي واجتماعي تلقى على كاهله مهمة دراسة القرارات والتشريعات والقوانين والإجراءات قبل إصدارها مما يخفف من الآثار السلبية التي تنجم على تطبيقه وانعكاسات فعله ودراسة مدى العلاقات بين المؤسسات الإدارية والسكان.

وبتكثيف، إن مدينة منبج لعبت في فترات متلاحقة العديد من المحطات الميثولوجية والدينية والأدبية والفنية والشعرية والتاريخية، وخاصةً في ظل الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، فلن تكون في حاضرها بأقل من ذلك أبداً.