ثقافة المقاومة… عنوانُ الحِراك الثقافي في وجه الإِبادة

 تقرير/ هايستان أحمد

روناهي/ قامشلو: الانكسار لا يعني الهزيمة بل خطوة جديدة ومحاولة أقوى، عنوان الواقع الثقافي في شمال وشرق سوريا لعام 2019م، فقد حمل هذا العام في جعبته بعض الانكسار والوقوف من جديد، والثبات والمقاومة.

الثقافة هي روح الديمقراطية، وذاكرة الشعوب. أنها أسلوب حياة المجتمع. فالأمة هوية، والهوية ثقافة، لسان حال، ووجدان، وصرخة البشر في وجه مصيرهم. ومن التعريفات المبسّطة لمفهوم الثقافة ما يصفها على أنها هي الرقي في مختلف الأفكار النظرية، وذلك يشمل علوم السياسة والقانون والتاريخ والفن ولا سيما الأخلاق والسلوك، وتعتبر مزيجاً من السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية، ويتوسع المفهوم ليشمل أساليب الحياة ومنظومات القيم والتقاليد والمعتقدات. ومن هنا بدأت رحلة الحياة الثقافية الحرة الديمقراطية في روج آفا وشمال شرق سوريا، فبعد إعلان الإدارة الذاتية بدأت الصروح الثقافية والمكاتب ودور النشر والمطابع تنتشر في كل المدن، ونبضت الثقافة من جديد في قلب الحياة ووزعت الحياة إلى كل فروع المنطقة، فكل سنة تَضيفُ على سابقتها بالنجاحات والتألق والرقي، وقد أخذ كل ذي حقٍ حقه من ثقافته وهويته وموروثه الثقافي بكل حبٍ وودٍ، فشعوب منطقتنا متنوعة ومزدهرة وغنيّة جداً بمعالم ثقافية وتاريخية، وقد تلونت صفحات التاريخ بألوان شعوبنا الزاهية ليكتمل كتابنا وينصع بألوان أخوّة الشعوب، ولعل هذه السنة كانت حافلة بالتقدم والنجاح الشيء الذي دفع الاحتلال التركي إلى كسره من خلال إشعال نار الفتنة بين أبناء المنطقة وتمزيق تاريخهم وأصالتهم عبر آلاف السنين، ولكنه لم ينجح قط، بل أثبتنا للعالم أجمع إننا كنا وباقون أبناء منطقة واحدة وبروحٍ قوية وهمة وعزمٍ لا يحطمه الإرهاب، ولكن كان لهذا الاحتلال تأثيراً على الروح الثقافية لوهلة من الزمن وخدّرها، ولكن سرعان ما نهض مُنتفضاً ناكراً الظلم والعدوان، متمسكاً بالحياة من جديد، فقد تسببت هجمات الاحتلال التركي على سري كانيه/ رأس العين، وكري سبي/ تل أبيض، بوقف بعض الأنشطة الثقافية الهامة في المنطقة، وأُلغيت بعض المهرجانات، ومنها (مهرجان أوصمان صبري ـ مهرجان الشهيدة برجم..وغيرها).

عفرين لمْ تَغِب عن قلبِ ووجدانِ المجتمع:

ولكن بالمقابل كانت هناك مهرجانات وحفلات فنيّة ومعارض وأمسيات شعرية لعبت دوراً هاماً في المجتمع، فهيئة الثقافة والفن في إقليم الجزيرة غنية عن التعريف لِمّا تقدمه من أعمالٍ تحييّ التراث والتاريخ وإلقاء الضوء على حضارات العالم المتقدمة والحداثة الفكرية ومعاصرة الأحداث على اختلاف مراميها، فقد قدمت هيئة الثقافة الكثير من الأنشطة والعروض المسرحية والمعارض في مختلف مناطق شمال وشرق سوريا، وكان معرض هركول للكتاب لنسخته الثالثة لهذا العام نجمة الساحة وتلألأت في سماء قامشلو، فقد جمع المعرض شعوب المنطقة المختلفة من كردٍ وعرب وسريان تحت شعار “مجتمع يقرأ مجتمع يرتقي”، وبدأت فعاليات معرض هركول في 20 تموز من عام 2019م، ودامت لمدة خمسة أيام على التوالي، شارك في المعرض أكثر من أربعين مؤسسة ودار نشرٍ ومكتبات وتوافرت كتب بلغات عدة (كردية ـ عربية ـ فرنسية ـ إنكليزية ـ تركية ـ سريانية)، وامتلأت صالة المعرض بالكتب فعدد الكتب كان 112 ألف كتاب، و8600 عنوان، وتضمنت كتب تاريخية قديمة تحكي عن تراث الشعوب عبر الزمن، ورافق المعرض إلقاء محاضرات يومياً وفتح آفاق النقاش والحوار على طاولة واحدة، وكان هذا المعرض بمثابة مُجمعٍ للكتاب والمثقفين وأهالي المنطقة لتناقل المعارف والخبرات ويُعرّف أهالي قامشلو على باقي المناطق المشاركة.

 وبرعاية المؤسسة ذاتها انطلقت فعاليات مهرجان أدب وفن المرأة بتاريخ 1/3/2019م، في قامشلو تحت شعار “المرأة روح الحياة وأبجدية الأدب”، وكانت هناك مشاركة واسعة ومن كافة شعوب المنطقة، وكان مهرجاناً غنياً ومتنوعاً جمع ما بين (المسرح ـ الفن التشكيلي ـ أعمال يدوية ـ غناء ـ شعر..)، ولا ننسى ملتقى روج آفا الثاني للفن التشكيلي بتاريخ 10/ أيار، كما سبقه معرض “سامبوزيوم في مدينة كوباني، وشارك في المعرض 77 فناناً تشكيلياً من مختلف شعوب المنطقة، وكانت الفعالية مثمرة ولاقت نجاحاً كبيراً فمعرض هذه السنة اختلف عن السنوات السابقة بتنوع اللوحات والفنانين المشاركين، كما أُلقيت محاضرات تخّص الفن بالتزامن مع المعرض الذي استمر لثمانِ أيامٍ على التوالي، وكان شعار المعرض “إرادة وطن الزيتون أقوى من إرهابكم” وخص الشعار مدينة عفرين المحتلة التي لازالت تنزف بسبب الاحتلال التركي وشناعة أفعاله فيها من قتلٍ ونهبٍ وتشريد وتهجيرٍ قسريٍ لأهالي عفرين، وقد نُظمت الكثير من المعارض والفعاليات من أجل عفرين.

مهرجانات وعروض مسرحية لافتة:

ومن هذه الفعاليات كان مهرجان يكتا للمسرح عنواناً عن المأساة والمعاناة في عفرين إثر احتلالها، وكان مهرجان يكتا هركول تحت شعار (صدى الزيتون)، الذي انطلق في يوم المسرح الكردي المصادف 27 آذار، وتنوعت فعاليات المهرجان بين المسرح والغناء، وكان برعاية هيئة الثقافة في إقليم الجزيرة وكومين المسرح وحركة الثقافة وحركة ميزوبوتاميا للثقافة والفن الديمقراطي.

أما اتحاد مثقفي روج آفا كردستان فكانت لهم بصمة خاصة ومميزة في هذه السنة مما قدمته من أمسيات شعرية لمقاومة روج آفا لعدة مدن في شمال وشرق سوريا، وغيرها من مهرجانات أدبية وقصصية وغنائية متنوعة، فقد لمت شمل المثقفين تحت سقف الاتحاد الضيق الواسع بالمحبة، وقد كان مهرجان روج آفا السادس للثقافة والفن في قامشلو من أهم تلك الفعاليات العديدة.

أما مركز شوبدراين روجيه للثقافة والفن فقد اقتصرت أعمالهم في هذه السنة على المعارض الصورية، ونظم هذا المركز مهرجاناً للقصة القصيرة، لم يكن بالمستوى المطلوب على صعيد المهرجانات، فلا يمكننا أن نطلق على كل عملٍ “مهرجان”، وهذا ما حصل في مهرجان جلالة خانم لورستاني، الذي انطلق في 25/4 في مدينة قامشلو.

وكان لاتحاد المثقفين في إقليم الجزيرة فعاليات عديدة ومتنوعة، متعلقة بالأوضاع الراهنة تارةً وبالتاريخ تارةً أخرى، وقد نظم اتحاد مثقفي إقليم الجزيرة معرضاً للفن التشكيلي في 23/ 3، وكان تحت اسم “لأجلك يا عفرين” مساندة لأهالينا في عفرين، وقام بحملة لأجل عفرين، كما قام بتنظيم قافلة الزيتون وزرع أشجار الزيتون في مختلف مناطق شمال وشرق سوريا، لتكون رسالة للمحتل التركي أنه مهما حاول اقتلاع أشجار الزيتون الكريمة سنزرع عوضاً عنها مئة شجرة، وأُلقيت الكثير من المحاضرات برعاية هذه المؤسسة عن “الطفل ـ والمرأة ـ والفن ـ والثقافة”، ولا ننسى افتتاح حديقة القراءة التي أصبحت منارة العلم ومنهل المعرفة للمثقفين والكتّاب، وهذه الخطوة عظيمة في ظل انحسار القراءة في الوقت الحالي.

أما اتحاد فناني الجزيرة كان البيت الدافئ للفنانين وقدم الكثير من الخطوات الناجحة في سبيل تطوير ثقافة الفن في المنطقة، وأطلقوا أغانٍ ثورية وتشجيعية وطنية، وكانوا السند لكل فنانٍ وبداية لكل تائه عن درب الفن، وقد نظم الاتحاد بالمشاركة مع هيئة الثقافة حفلات الصيف لعدة أشهر، واستقطبت فنانين كرد وعرب وسريان، إلى المجتمع في قامشلو، وكانت هذه الحفلات بمثابة الخروج عن جو الخوف والقلق.

وقد سجل مسرح ومعرض مركز محمد شيخو كل هذه التواريخ والنشاطات، فهذا المركز يُعتبر قلب الثقافة في مدينة قامشلو، والعمود الأساسي لبداية كل خطوة مثابرة، وشهد مسرحه ضحكاتٍ ومشاهد فرح وقوة، واحتضن الأهالي والممثلين والفنانين والجنود المجهولين ما وراء الكواليس بكل حب.

أما مكتبة أمارة، فلا يجب أن نتحدث عن الثقافة ونسهو عن المكتبات التي تعتبر النجمة اللامعة والمشرقة التي تبرق في سماء قامشلو، فهي حاضنة محبي القراءة والكتاب، وهي غنية بالكتب المتنوعة وقد زاد عدد كتب هذه المكتبة على الألفي كتاب، ولا يزالون يجمعون مفاتيح القراءة ويطمحون إلى جذب المجتمع إلى القراءة، فالقراءة أول درجات رقي الفكر، وأخيراً كانت سنة 2019م، سنة مليئة بالنجاحات والبعض من الصعوبات والكدمات، ولكنها لم تؤثر قط على أهالي المنطقة بل زاد من عزيمتهم بتقديم الأفضل، ونتمنى أن تكون السنة الجديدة مفعمة بالعزيمة والصبر، والتقدم أكثر بعجلة الثقافة إلى الأمام.

عام من الجهود المتواصلة والمثابرة كانت سمته البارزة سمو ثقافة المقاومة في وجه آلة الإبادة التركية التي حركتها ولا زالت لتقضي على آمال وأحلام وتراث المنطقة، لكن توحد الأقلام والفكر والألوان والأنغام في الساحة الثقافية كان بالمرصاد، في سعي دؤوب نحو مجتمع واعي وثقافة مجتمعية خلاقة على جذور تاريخية تمتد لآلاف السنين.