سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

تركيا والقانون

أحمد شيخو/ كاتب-

عندما يسمع المرء بكلمة القانون، وكما تم تسويقها للناس وافتراضها، يتبادر إلى ذهن الإنسان الحق والعدالة، وفرصة الحياة المنتظمة التي تؤمن للمجتمع استمراريته ومأكله ومأمنه.
لكن لو تمعنا في عدد من السلطات والدول التي لها مشاريع توسع واحتلال وهيمنة عالمية أو إقليمية مثل إيران وتركيا التي تحكمهما مزيج من السلطة الإسلاموية والقوموية، سنجد أن للقانون وظيفة تم إيجادها، تأكيدها وترسيخها، وهي تحجيم الميدان الاجتماعي للتعبير والحياة والعمل، والاستحواذ على ميادين وساحات النشاط الإنساني والأخلاقي والمجتمعي.
ولو دققنا فيما ما يفعله أردوغان وحزبه عبر القانون الذي يفصله في برلمانه المنتخب وفق شروطه وزمانه وقوانينه الأردوغانية، سنجد أنه يتم تجريد المجتمع وشعوبه من حق التعبير والتنظيم وممارسة السياسة والإدارة، وتطويقه بالقوانين والحكم المفروضة عليه بنحو أحادي من قبل السلطة والدولة. وإخضاعه للقمع والاستغلال من قبل أدوات عنف وشدة سلطته. وما يؤكد ذلك هو ما يفعله أردوغان وسلطته في سجن قادة ونواب ورؤساء بلديات الكرد المنتخبين والنشطاء في باكور كردستان (جنوب شرق تركيا) وكذلك قوى المعارضة الديمقراطية في تركيا بدون أي اعتبار لأي قانون دولي وحتى تركي .
ومثلما يلاحظ أن تصاعد القانون في أي مجتمع يدل على ضعف وتعرية ذلك المجتمع من الأخلاق والقيم المجتمعية، كما يدل على سيادة صراعات طبقية وسلطوية غايتها تمزيق أواصر وترابط المجتمع للانقضاض عليه واستغلاله وقمعه بوضوح. ولعل انتشار وتعبئة المجتمع بالشوفينية والفاشية من قبل السلطة التركية وكذلك الوضع الاقتصادي المتردي للمجتمع في تركيا ووصول الليرة التركية إلى 8.5 مقابل الدولار وفقدانها 30% من قيمتها وقول أردوغان “اشرب الشاي” لمواطن قال له أنه لا يملك حق الخبز، وتبعاتها الاجتماعية؛ كل ذلك له دلائل على الاختيارات والنتائج الحتمية للقانون الأردوغاني ولسياساته الخاطئة والقمعية.
والإجراءات القانونية المفصلة التي تتخذها السلطة التركية، تعكس مصالح الزمرة الحاكمة واحتكاراتها المشفرة بقوالب إسلاموية وقوموية، وهي لا تعكس قوة الحق وتمثيل العدل في روح القوانين المفترضة. وكلما أراد أردوغان التجاوز على المجتمع والأخلاق والشعوب سنَّ قوانين عبر أطر يفترض أن تحمي مصالح شعوب تركيا مثل المجلس القومي التركي والبرلمان والحكومة والقضاء، لكنها بقوانين أردوغان وحزب العدالة والتنمية أصبحت تعكس السلطوية الانتهازية والدكتاتورية المغلفة بقوانين تشريعية، حتى أثناء محاولة أردوغان الهروب من أزماته وحروبه الداخلية وإشغال الجيش لبقائه في السلطة، فإنه يقفز إلى الأمام ويتمدد ويحتل أراض في المنطقة ويمرر تلك الرغبات والاحتلالات عبر البرلمان وتمديد مذكرات تسمح للجيش بالذهاب إلى الخارج وإبادة شعوب المنطقة وتغيير ديموغرافية المناطق التي يحتلها كما يحدث في عفرين وسري كانيه (رأس العين) وكري سبي (تل أبيض) وإدلب والباب، حسب عثمانيته الجديدة ورغبته في تحقيق الميثاق الملي.
من المهم مراقبة التطور الرهيب للقانون ضمن المسار المنتظم للاستغلال الرأسمالي الذي يتأتى من ميول النظام العالمي للهيمنة على الربح الأعظمي الذي لا يعرف أية حدود. والاتفاقات التي وقعتها تركيا مع ما يسمى حكومة الوفاق وكذلك مع الحكومة الصومالية والقطرية وحتى الأستانات في سوريا واتفاقيات تركيا وأمريكا في سوريا وأرتساخ وحتى توافق تركيا وإيران في اليمن ومد الحوثيين بطائرات مسيرة تركية والعديد من مناطق الصراعات؛ هي لتحقيق الهيمنة وسرقة ونهب ثروات الشعوب ومقدراتهم.
ولو تعقبنا مصطلح الحق تاريخياً سنواجه احتكار السلطة الذي يعلن نفسه إلهاً – ملكاً أو رسولاً أو سلطاناً أو خليفةً أو مرشداً، وهنا يعبر مصطلح الحق عن استملاك وممارسة الإرادة أحادية الجانب للسلطان من جهة وعن ألوهيته وربما أحياناً عن نبويته من الجهة الأخرى، وما مصطلحات الحق والرب والله والسلطان وتفصيلها بهذه الشكلية سوى تعبير عن هذه الحقيقة. شبّه أردوغان نفسه بالرسول محمد عليه الصلاة والسلام عندما كان الرسول وأبو بكر رضي الله عنه في غار حراء، حيث قال أردوغان أن الانقلابين في ليلة 15 تموز 2016 لم يروه عندما دخلوا عليه في الطائرة وكما قال أحد نواب حزب العدالة والتنمية لو أن الرسول محمد عليه الصلاة والسلام لو وجد الآن ورشح نفسه فلن يحصل على الأصوات أكثر من أردوغان. وحتى أن شيوخ تنظيم الإخوان المسلمين الإرهابين مثل القرداغي والقرضاوي قارنوا بين أردوغان والذات الإلهية، في تعدٍ واعتداء واضح على الدين الإسلامي وقيمه وتوظيفهم لخدمة أجندات سلطانهم السلطوية لإعادة إمبراطورية الوهم والكذب الأردوغانية العثمانية.
ويمكننا الحكم على القانون في تركيا أنها أخلاق احتكارات السلطة والدولة ورأس المال فيما تسري الأخلاق التقليدية في ساحة الأنقاض المتبقية باسم المجتمع، حيث يتم تحويل القانون إلى ساحة ممارسة مضبوطة لسلطة الدولة التي تضيق مساحة المجتمعات وأفق حريته. وتعتقل السلطات التركية أكثر من 300 ألف من النشطاء والإعلاميين والقضاة والأكاديميين والمعارضين والموظفين تحت قوانين وحجج واهية، ولا يمر يوم في تركيا دون اعتقال أو سجن أو قتل أحد أبناء الشعب الكردي. أما جعل كافة مجالات الحياة وحتى الماء والهواء موضوع قانون في ظل النظام العالمي الليبرالي فهو يجعل مصطلح القانون ملموساً وأكثر شفافية في اتخاذه غطاءً قانونياً وشرعياً لعمليات السلب والنهب والتسلط، إما مباشرة أو عبر أدواتهم الإقليميين الذي يفسح المجال لهم لتجاوز كل قوانين ومفاهيم ومعايير حقوق الإنسان التي وضعوها هم في الفترات السابقة لضبط المخالف والمعارض حسب الحاجة والضرورة .
إن الصعود التدريجي بالقانون إلى المراتب العليا في العلوم الاجتماعية وتعظيم دوره من قبل السلطات والدول ينبع في جوهره من مواراة الباطل باسم الحق وإخفاء الكذب والرياء باسم الواقع الاجتماعي وتكبيل الحياة باسم الحياة المنضبطة والمنظمة، ولهذا فالقانون مرغم على أن يكون أداة الشرعنة الأساسية لأغلب السلطات ومنها السلطة التركية، وكذلك للنظام المهيمن العالمي. فبأي حق تهاجم تركيا جنوب شرق تركيا وكذلك شمالي سوريا وشمالي العراق (إقليم كرستان العراق) وحتى ليبيا والصومال واليمن، وتتواجد في قطر لتهديد أمن واستقرار الخليج العربي والدول العربية كلها، لإخفاء الباطل والكذب باسم الأمن القومي التركي وباسم اتفاقيات تركيا مع ما تسميه تركيا الحكومات الشرعية الضعيفة.
من المهم في ميدان القانون الذي سردناه بإسقاطه على تركيا رؤية البعد الأخلاقي والمجتمعي والإنساني، وتحليل التشويش والتضليل والخداع فيه ومعرفة كيفية الدفاع وحماية الشعوب ودول المنطقة ومجتمعاتها بالأخلاق المضمنة ولو بحدود في هذا القانون. بمعنى آخر عدم التخلي عن دور الأخلاق المضمنة بالقانون في حماية المجتمع وتأمين سيرورته، تماماً كاسترداد القدرة على الإدارة المجتمعية وتفعيل قواها المضمنة بالسلطة وعدم التخلي عن الميدان الاجتماعي ودوره في تأمين الاستقرار والأمن والسلام لشعوب المنطقة ودولها.