بين ثورتهم…وثورتنا، جدلية التاريخ!

حسين دلف_

الثورة الفرنسية كانت نتيجة حتمية لمجموعة من العوامل السياسية، مثل الاستبداد، فساد نظام الدولة والإدارة واللامساواة بين طبقات المجتمع كافة، والتفاوت الطبقي الكبير بين فئات المجتمع، والعديد من العوامل الاقتصادية مثل: فرض الحقوق الجمركية، إضافة إلى تقلص عدد المستعمرات الفرنسية لصالح الإنكليز، وفشل محاولات الإصلاح في القضاء على العجز المالي.

ضمن أي مجتمع شرقي توجد الأسباب نفسها، التي أدت إلى قيام الثورة الفرنسية، خاصة الفساد والاستبداد، اللذان يمارسان على الأفراد في المجتمع من قبل الأنظمة الحاكمة، لذلك قيام ثورات في كل بلد من بلدان الشرق حالة طبيعية، ونتيجة حتمية لمجابهة الاستبداد والبطش، الذي تمارسه السلطة الحاكمة؛ بسبب تبعية هذه البلدان للقوى العالمية الكبرى، وغياب الحرية والديمقراطية، ما أدى بها إلى ضعف الدولة وفقدان الاستقلالية وقوة القرار، وبالتالي يشعر الأفراد بالنقص والغبن تجاه الأفراد في المجتمعات الأخرى المتقدمة.

إن الاختلاف بيننا وبين فرنسا، هو أن فرنسا كانت تمر بفترة عجز مالي، وتدهور اقتصادي بسبب حروبها مع إنكلترا، وحروب الاستقلال الأمريكية، أما بلدان الشرق وخاصة سوريا والعراق، فإنها تقع على بحر من الثروات الطبيعية، وتمتلكان ثروة بشرية، لكن للأسف؛ فإن الأنظمة الحاكمة، التي تعاقبت على الحكم نهبت واستولت على كل الثروات الاقتصادية، والسيطرة عليها وفرض القيود والقوانين الجائرة على الثروة البشرية، وجعلها تفكر فقط في تأمين لقمة العيش بعيداً عن الصراع على السلطة، أو حتى التفكير بالاقتراب منها؛ لذا يحسب لعقلية الشعب الفرنسي الذي كان هدفهم الارتقاء بدولتهم ورفض أن تكون فرنسا دولة ضعيفة، أو أن يكون دورها هامشياً على الخريطة الدولية؛ لذلك أعطت الثورة الفرنسية نتائجاً مبهرة على جميع الأصعدة، وأثّرت على كل دول العالم، وليست على فرنسا وحدها فقط.

 بالطبع عقلية الشعب تغيرت؛ لأن أفكار قيادة الثورة كانت أفكار إنسانية، وتنشد التغيير، والهدف منه التطوير، وحل المشاكل، التي أدت إلى ضعف فرنسا وتدهور اقتصادها.

 إن هدف قادة الثورة لم يكن فقط الإطاحة بنظام الحكم والحاكم، بقدر ما كانت أهدافهم هي إحداث ثورة في مجالات الحياة كافة، ومفاصل الدولة الفرنسية، وعلى العكس مما شاهدناه لدينا، وخاصة في سوريا والعراق، فالهدف كان استبدال طاغية بطاغية، ومستبد بآخر.

الصراع بين الثوار، وبين النظام الحاكم لم يكن هدفه تقديم الأفضل وإحداث التغيير في المجتمع والنهوض به بقدر الصراع على السلطة والمال والثروة، ونهب خيرات البلد وخير مثال المحاصصة السياسية، وتوزيع الثروات بين القوى السياسية العراقية بعد سقوط نظام البعث في العراق، لدرجة أننا أصبحنا نرى الشعب العراقي يترحم على أيام حكم البعث، وصدام حسين في إدارة الدولة، وتقديم الخدمات للشعب.

وفي سوريا قيادات الثورة توجهت إلى خارج البلد، وأصبحت تابعة للدولة التركية، وتحقق لها مصالحها، سواء في مهمة الارتزاق في ليبيا، ومهاجمة مناطق الإدارة الذاتية، واحتلالها لعفرين وسري كانيه، وكري سبي مع التهديدات المستمرة، والقصف المستمر على مناطق الإدارة الذاتية، كل ذلك بحجة محاربة حزب العمال الكردستاني، الذي لا خلاف، ولا صراع مباشر بينه، وبين ممن يدعون تمثيل الثورة السورية.

 فالدعم المادي الكبير للثورة السورية في بدايتها، وإلى الآن من قبل تركيا، وقطر، والدول الموالية للثورة السورية، لم تثمر عن أي شيء فعلي، فلا النظام تغير، ولا الحركة الثورية استفادت، بل أصبحوا عبيداً لأصحاب المال، وتتم عملية إدارة الثوار من تركيا، على العكس من قيادات الثورة الفرنسية، الذين كانوا يحملون فكراً ونظاماً سياسياً اجتماعياً، اقتصادياً، للمجتمع، وبدون أن يكون هناك تمويل ودعم مادي كبير لهم، مثل الثورة السورية.

تبقى فقط تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا هي الأكثر قبولاً، على الرغم من أنها لم تصل للكمال، وللمثالية؛ ذلك لأنها في طور النشأة، والتكوين وعقلية الشعب ما تزال متأثرة بالمبادئ والقيم التي زرعتها الأنظمة السابقة، خلال عقود طويلة من الزمن.

 كذلك الخوف والهلع بسبب الظلم والبطش، اللذين مُورسا عليهم من قبل الأنظمة الحاكمة؛ لذلك من المبكر إصدار الحكم القاطع عليها، فالحرب ما زالت قائمة، وتركيا والنظام السوري يفعلان المستحيل في سبيل إفشال المشروع القائم، والتجربة الجديدة في شمال وشرق سوريا؛ لذا فإصدار أي حكم حالياً هو نسف وظلم للإدارة الذاتية، ولنا، لكن تبقى هذه التجربة هي الأفضل، وأي خارطة طريق لسوريا الغد، يجب أن تمر من خلال هذه التجربة، التي أثبتت أنها الأفضل، والأكثر مصداقية من بقية المشاريع المطروحة على الساحة السورية.

فإن أسباب نجاح الثورة الفرنسية، وتأثيرها الكبير على فرنسا، وعلى العالم، لم يكن بسبب المال أو القوة الاقتصادية والعسكرية، بل لأن أهداف الثوار كانت واضحة ونقية، وتلبي احتياجات الشعب وما يتطلع إليه الشعب، فهي كانت ثورة تغيير وتطوير وتقدم، أكثر مما هي ثورة للإطاحة بنظام حكم أو سلطة سياسية مستبدة، على العكس من الثورات، التي حدثت وما تزال مستمرة في بلدان الشرق فهي ثورات عسكرية هدفها إسقاط نظام حكم مستبد، وإحلال نظام آخر أكثر استبداداً منه في إدارة المجتمع والدولة، فإي ثورة أو حركة سياسية لا تهدف إلى التغيير والتطوير حتماً ستفشل، فأول خطوة لنجاح أي ثورة هي تغيير عقلية الشعب، والقضاء على الأفكار الرجعية العنصرية ونشر مبادئ التسامح والديموقراطية، ونبذ كل مظاهر العنف والاستبداد لزرع الأمان والطمأنينة في كل مفاصل المجتمع.

خلال عشر سنوات، وعلى ثلاث مراحل استطاعت الثورة الفرنسية تأسيس مجتمع ونظام جديد أكثر حرية وأمان وديمقراطية، وأكثر قوة وانفتاحاً على العالم، أما نحن فخلال عشر سنوات، وكل شيء من سيء إلى الأسوأ؛ لأن العقيلة هي ذاتها رافضة للتغيير، رافضة لكل تجديد سواء بالخطاب السياسي، أم الديني، أم بالنظام الاقتصادي، أو العسكري على العكس تماماً مما كنا نطمح له في بداية الثورة، ما دامت العقلية والفكر، لم يتغيرا فقد استطاع النظام الحاكم التأثير على كل مفاصل الثورة، وزرع الفتن الطائفية بين مكونات المجتمع.

 إن مجرد المقارنة وتسمية ما حدث في الشرق، بثورة شيء كارثي، ما دامت العقيلة جامدة، والفكر مستبد وقمعي رافض لأي تغيير وتطوير في المجتمع.

فأي ثورة عسكرية يجب أن تكون مدعومة بثورة فكرية، على العكس من الثورة الفكرية، التي لا تحتاج إلى قوة عسكرية، ما دامت تستطيع الوصول إلى مكونات المجتمع من خلال الفكر، والأهداف، التي تحملها فقط.