سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

بداية الهايكو العربي ـ6ـ “الهايكو عربياً من خلال رواده، عذاب الركابي، محمد الأسعد، عاشور فني”

فيروز مخول (كاتبة وشاعرة سورية مغتربة)-

قوانين الهايكو المغايرة لم تحل دون اهتمام الشعراء العرب بموضوعات أخرى قد لا تعد من الهايكو إذا احتكمنا إلى صرامة مبادئه التي ترتبط بالموضوع، ولكن من منطلق الخصوصية نجد شعراءنا يتحدثون عن موضوعات أخرى مثلما ورد عند الركابي في ديوانه الأول “ما يقوله الربيع”:
“• وطن: كم/ يلزمك من الكذب/ كي تنام، ليلة ثلجية/ في سرير الوطن”
في ديوانه هذا، وبخلاف محمد الأسعد، نرى الركابي يرتهن إلى التقاليد الشعرية العربية بالعمل على تطوير الفكرة النواة التي ينمّيها بالعودة إلى الوتد الكلامي، فيتجاوز بذلك قانون اللحظة التي يمتاز بها الهايكو إلى تعدّد اللحظات، وهذا ما يجعله يكتب هايكو خاصاً به مثلما ورد في قوله من ديوان ما يقوله الربيع.
وجدنا أن الشاعر يؤسس لشكل يختلف عن شعر الهايكو الياباني ويجعله يرتهن إلى تقاليد الكتابة العربية، حيث يقول:
“• بلاغة: لنْ أنسى/ ما حييت/ نظرة تلكَ الوردة، لنْ أنسى/ ما حييت/ ثقة قطرة الندى/ بنفسِها/ لنْ أنسى/ ما حييت/ بلاغة الألمْ!!”.
مبدئياً، يمكن الإقرار أن هذا الشعر يختلف عن منطق تجربة الهايكو التي تبدو وكأنها تصل إلى البؤرة مباشرة في حين تتطلب القصيدة العربية (وفي هايكو الركابي) طريقة أخرى تقوم على الوصف والتركيز على لحظات بدل اللحظة الواحدة، وهذا ما ينعكس على طبيعة الشكل الذي ترد به التجربتان.
ومن هنا، فالحديث عن عملية تعريب للهايكو ترتبط ارتباطاً وثيقاً بخصوصية السنن العربي الإيقاعي والبلاغي، كأن يكون قائماً على إيقاع ينسجم مع إيقاع الشعر العربي لأن إيراد جمل منعدمة الإيقاع لا يدخله في السياق الشعري، كما أن الالتزام بشروط معينة كالتي تداولها البعض عن شعر الهايكو من قبيل نفي الاستعارة ليس مما يراهن عليه في الشعر، لأن الاستعارات نحيا بها والقول بعدم اعتمادها تنكّر للإبداع الشعري ذاته، هذا إذا ثبت مما ترجم إلينا من الهايكو الياباني أنه لم يخل من المجاز، وهذا ما حدا بالشاعر عذاب الركابي إلى اعتماد التشخيص في تجربته والأنسنة التي يعتقد محمد الأسعد، وهو من ترجم الهايكو الياباني، أن غيايها من قواعد الهايكو، حيث يقول: “والذين اعتادوا على المنبع العربي التقليدي أو المنبع الغربي التقليدي الذي طبع بطوابعه الشعر العربي الحديث، سيجدون في هذه القصائد ما لا يفهمون، فهي تتجنب الأساسيات العزيزة للجمال الشعري المألوف: التشبيه والمجاز وتجريد الملموس وتجسيد المجرد، وتتمسك بتسمية الموضوع (موضوع الخبرة) مباشرة. وهي تتجنب التشخيص أو أنسنة الأشياء. فالإنسان ليس مركزاً بل هو خيط في شبكة كلية، وكذلك بقية الموجودات من تراب ونبات وحيوان ونجوم وسديم، غير أنه ما يلبث عندما ينتقل إلى الكتابة أن يقع، هو نفسه، في الأنسنة، مثل ما ورد في قوله:
“•وداع: خطواتنا/ غمغمة/ على أوتار قيثار بعيد، •مطر: ما الذي، يبكيك/ أيها المطر؟، •بلبل: بلبل عابث/ أغنية تغرق/ في حجر الليل”
إنه يجعل للوداع غمغمة وللمطر بكاء، كما جعل الأغنية تغرق وشخّصها بنفس الطريقة التي تصنع بها الاستعارة. وتبقى المشكلة التي تثيرها تجربة من كتبوا في الهايكو العربي “تتمثّل في قابلية القصيدة العربية في تمثل التجارب الشعرية الناجحة، ليس في الغرب، فحسب، وإنما في أقصى الشرق، ثم تتجاوز هذه التجربة كل الطروحات الفكرية السابقة لتقدم خطوة تطبيقية يكون من آثارها أنه باستطاعة الشاعر العربي وهو يملك تاريخاً شعرياً حافلاً أن يضيف إلى المخزون العربي شعراً جديداً من الأسلوب المستلهم من الإرث الشرقي هذه المرة”، هذا إذا اعتبرنا أن هذا النوع من الشعر لا يوجد ما يماثله في الثقافة العربية كما قال محمد الأسعد آنفاً، على الرغم من أن عاشور فني يرى بأننا نجد في بعض الأفكار المتداولة في النقد العربي حول التجربة والكتابة الشعرية مبادئ أولية لكتابة هذا الشكل من الشعر، ومن ذلك الحديث عن الكشف والتكثيف وعن الحد الأدنى من اللغة في القصيدة وقوة الهشاشة ولغة انكسار الوجود وآنية الحضور وتجليات الأبدي فيما هو آني عابر.
ومهما كان الاختلاف في تفسير هذه الظاهرة في علاقتها بالذائقة الشعرية العربية، فإن استيراد هذه التجربة، ليس لكي تكون بديلاً، وإنما لتكون شكلاً مضافاً إلى تجاربنا الشعرية المختلفة كقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر وغيرها من التجارب الأخرى، إنها تجربة لا ننتظر أن تدخل على الثقافة العربية بلاغة جديدة بقدر ما تنبّه إلى أشكال بلاغية عربية تماثل بلاغة الهايكو. كما خرجت موضوعاتها من الطبيعة إلى موضوعات ذاتية وأخرى اجتماعية ووطنية، وجنح في بعضها إلى الرمزية والإيحاء كقوله:
“•سحابة بيضاء: بخيط رفـــــيع/ تجمع الريح قطعها المبعثرة/ وهــي تمر، •على الرصيف: عينان تعبران الكون/ تـنفذان/ حتى الـعظم”.
لا شك أن الاقتصاد اللغوي وتكثيف الصورة واضحان في هذه المقطوعات، وهو سعي وجدناه عند الشاعر نفسه وفي الشعر العربي عموماً، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن جدوى تسمية التجربة بالهايكو إن لم تكن مجرد شعار إعلامي لا غير؟!