قامشلو/ دعاء يوسف ـ
يمثل الورد “لصالحة العايد”، امرأة مهجرة من سري كانيه، قيمة كبيرة، تعطيه الحب والاهتمام فيبادلها بالسكينة، وتفوح منه رائحة أرضها: “في كل غرسة أزرع الأمل، والحلم بالعودة لمنزلي، تحت أشجاري الخضراء، التي كبرت معها، ورائحة هذه الزهور تبعث في نفسي الاشتياق والمودة والحنين، لتلك الأيام التي حُرمت منها”.
في كل صباح تجدها جالسة بين شتلاتها الصغيرة، تسقيها الحب، فتنمو بكل هدوء، وفي سكينة الصباح تتجاذب معها أطراف الحديث عن وطنها، الذي سلب منها، واصفةً هذه البقعة الصغيرة، التي ملأتها بالزهور ملاذها الأخير؛ لما لقيت من قسوة الفراق لربوع أرضها.
فعندما تمعن النظر في زهراتها الصغيرة، تجد بين كل بتلة، وبتلة قصة، تحدّث أحداها للأخرى، تخبأها لمسكنها الجديد، وفي زاوية منزلها الصغير انتشرت تلك الشتلات الصغيرة، التي يداعبها الهواء ناشراً عبقها في الأرجاء، من صبارة قوية متينة قاسية، حملت أعباء صالحة وآلامها، إلى النباتات الهشة، التي تبعث الراحة والاطمئنان بجمال زهورها الحمراء.
غادرت بلدتي ومعي نبتة
مع خضم الأحداث، التي ضربت عموم المنطقة، تهجرت صالحة العايد كغيرها من المواطنين إلى أماكن أكثر أماناً، حاملين معهم الأمل بالعودة إلى أرضهم ومنازلهم، وبعد رحلة خروج مرهقة بين المخيمات، والمناطق استقرت صالحة في مدينة قامشلو، لكنها لم تنسَ حلمها بالعودة.
وعن أبشع اللحظات، التي صادفت صالحة هي خروجها من منزلها رغماً عنها: “كون مدينة سري كانيه من المناطق الحدودية للاحتلال التركي، فقد عانينا الويلات في هجماتهم المتكررة على المدينة، إلا أننا صمدنا، وتشبثنا بمنازلنا، ولكن خرجنا رغماً عنا تاركين خلف ظهورنا أحلامنا، وذكرياتنا”.
وآخر شيء حملته صالحه معها في رحلة التهجير، كان أصيص زهرة من فناء منزلها: “تعلقت بالورود منذ الصغر، فوالدي زرع في فناء منزلنا شجيرات صغيرة من الزيتون، والرمان، وأسماها بأسمائنا، فكنا نسقيها ونرعاها، حتى كبرنا معاً، فشاءت الأقدار وافترقنا، إلا أنني عندما غادرت، خفت ألا أعود، فحملت معي أصيص زهرة الريحان، دون وعيٍ مني”.
وقد سكنت صالحة في مخيم سري كانيه، لسنتين في الحسكة، فتركت المخيم وسكنت المدينة مع أطفالها، ثم انتقلت إلى قامشلو فاستقرت هناك، وعلقت على تهجيرها: “ضمن أوطاننا أصبحنا مهجرين ونازحين، وهذه الأرض بوسعها لم تحتضنا”.
تحويل الهواية لمصدر رزق
أصبحت زهرة الريحان الصغيرة ثلاثة، لتتضاعف مع رحيلها من مكان إلى آخر، ورافقتها الياسمينة الشامية، ثم الجورية الصغيرة، وغيرها من الزهور التي استطاعت صالحة اقتناءها.
وعلى مدى ثلاث سنوات، لم تحظ صالحة على فرصة عمل تعيلها، فما عاد بمقدورها أن تعيل عائلتها وحدها، فجعلت من هوايتها في جمع الورد مصدر رزق تقتات منه: “بدأ الأمر بجارتي، التي اشترت ست شتلات من زهوري بسعر جيد جداً لشرفة منزلها، وعرضت لي فكرة ببيع ما أملك من الزهور لمشاتل الورد في المدينة”.
وتستخدم صالحة عبوات الزيوت الفارغة المستعملة، والصفائح المعدنية المرماة؛ فتزرع بها زهورها الجديدة، التي تشتلها من جديد، وعن طريقة زراعة الورود قالت صالحة: “علمني والدي من الصغر كيف تنمو الزهور وأنواعها، فبعضها ينمو، إن أخذت منه غصنا، لينمو من جديد مثل الصبار، وبعضها ينتج من بويضات صغيرة تقوم بأخذها وزرعها بعيداً عن الأم، لتنمو وحدها كورد “السيكا المنزلي”، والذي يصل سعره لمئة وخمسين ألفاً، أما الجوري فله موسم للتقليم”.
تزرع الحب والعطاء
جميع الزهور، التي تزرعها صالحة من عمل يدها، إذ تعتني بها فترة الشتاء، لتبيعها لاحقاً، وأكثر ما يسعد صالحة في عملها، أنها تزرع الحب لتعطيه للعالم، وعلقت على الأمر: “تكبر أمام عيني، أسقيها الحب، وأحادثها مع فنجان الصباح، أحاديث الهجرة الطويلة والحنين لأرضي، التي سلبت مني، وأخبرها عن أحلامي، التي سأحققها عندما أعود”.
عمل صالحة كما وصفته يروج للفرح، ويساهم بإضافة الجمال للحياة، مبينةً أن الزهور الطبيعية كالأطفال، تحتاج الرعاية والصبر لتنمو: “يلجأ الكثير للورود الاصطناعية في هذا الوقت، ولكن الورد الطبيعي يحمل بين كل بتلة وبتلة قصة، وبين أوراقه ينتشر الجمال، وهذا ما يميزه”.
