اليمين في أوروبا ومعضلة الدولة القومية

حميد المنصوري (كاتب ومحلل سياسي إماراتي)_

في ظل دخول الكثير من نساء أوروبا في اليمين السياسي، ربما تناست المرأة الأوروبية أو جحدت الليبرالية التي مكنتها من الحضور السياسي والاجتماعي وكسرت من أجل حقوقها أغلال اليمين وخضوعها للرجل والكنيسة، فها هي السيدة جورجيا ميلوني تحقق فوزاً عبر حزبها أخوة إيطاليا في الانتخابات التشريعية الإيطالية حيث حصلت على أكثر من 26 بالمئة من الأصوات والذي سيمكنها من قيادة ائتلاف يميني إلى السلطة، وهذا الفوز أتى في ظل استمرار الحرب الروسية الأوكرانية وأزمة الطاقة، والتي بصورة أو بأخرى تعكس تصدي روسيا القومية المحافظة في وجه تمدد الليبرالية الغربية، سنحاول هنا قراءة الأبعاد في صعود اليمين الإيطالي إلى السلطة وأثرهُ على القارة الأوروبية والسياسة الدولية.

البعد الشخصي، ولدت جورجيا ميلوني عام 1977 في أسرة متضاربة التوجه السياسي حيث الأب يساري، وقد ترك أسرتهِ وهاجر لجزر الكناري، والأم يمينية، ويكشف البعد الشخصي بأن ميلوني كافحت منذ نعومة أظافرها كبائعة في سوق الخضار، ثم تحولت للعمل نادلةً في إحدى حانات العاصمة روما، وفي سيرتها الذاتية تبلور توجهها السياسي في سن المراهقة من خلال انضمامها إلى «جبهة الشباب» في الحركة الاجتماعية الإيطالية، التي شكلها أنصار الراحل بينيتو موسوليني، وكانت عضواً في مجلس النواب، وسجلت بأنها أصغر وزيرة إيطالية “وزيرة الشباب” في عهد سيلفيو برلسكوني، وفي عام 2012 شكلت وتزعمت حزب إخوة إيطاليا.

البعد السياسي في أوروبا، يحمل صعود اليمين إلى السلطة في إيطاليا أبعاداً كبيرة ممتدة في جوانب عديدة ومختلفة، فالأحزاب اليمنية بطبيعتها لا تؤمن بالاندماج والتكامل، فقد أضحت أوروبا الغربية مهد الليبرالية وانتشارها للعالم تشهد تحولات سياسية وفكرية وشعبية نحو اليمين المحافظ والشعبوي، فمهما تعددت أسباب بروز اليمين المتطرف في أوروبا من تدفق المهاجرين واللاجئين وإخفاق بعض السياسات العامة وغيرها من الأسباب كتفكك الأسرة وانخفاض المواليد، إلا أن هناك حقيقة لا تقبل الجدال في أوروبا، وهي أن جوهر الفاشية مازال موجوداً في الوعي الأوروبي عبر رؤية التجانس الثقافي الكلي مقابل رؤية مضادة لجميع الأقليات الأخرى العرقية والدينية والثقافية، ويبدو هذا جلياً في تزايد النزعة القومية والشعبوية التواقة إلى الماضي في التجانس العرقي والثقافي، ورغم وصف جورجيا بالفاشية، إلى الوصف الأدق كونها محافظة وقومية إيطالية، فهي تضع نفسها بأنها مدافعة عن الله والوطن والأسرة، كما اشتهرت بمحاربة المثلية في المجتمع، ومعارضةً للتعددية الثقافية والهجرة، علاوةً على إعلانها التصدي لانتشار الإسلام في إيطاليا المسيحية الطابع، ومشجعةً على الإنجاب وتماسك الأسرة.

عكست ردود فعل القارة الأوروبية على فوز حزب إخوة إيطاليا احتراماً لكل ما تنتجهُ الديمقراطية مع بعض الهواجس، مقابل تلقي دعماً معنوياً وترحيباً من الحكومة المحافظة في بولندا والمجر والسويد، وأيضاً من الأحزاب المحافظة الأوروبية مثل حزب فوكس اليميني الإسباني والتجمع الوطني الفرنسي. حقيقةً، تتشابه حالة إيطاليا في مسار القومية والمحافظة والشعبوية مع السويد والمجر وبولندا، ففي وضع بولندا استطاع الرئيس البولندي المستقل ذو الخلفية المحافظة الشعبوية أندريه دودا الفوز بولاية رئاسية جديدة عبر الدعم والحضور الكبير لحزب العدالة والقانون المحافظ الذي يقود الحكومة، ويتبنى هذا الحزب سياسات شعبوية محافظة عبر دعم قضايا سكان القرى والأرياف الذي يعتبرون في صفاء عرقي وإلى حالة أقرب إلى العزلة الثقافية، مع توجهات لتشجيع الإنجاب وتماسك الأسرة، وإحياء القيم الدينية مثل نبذ ومحاربة المثلية، فمسألة صعود وانتشار اليمين المتطرف براية التناسق الثقافي والتاريخي والعرقي والوطني في أوروبا ليست موجهة نحو الأقليات المسلمة بل إلى الجميع كاليهودية في بولندا.

ونلتمس في هجوم مليوني على الرئيس الفرنسي ماكرون الذي يعود إلى 2018، ملامح لسياسة خارجية إيطالية قادمة، فقد عكست في هجومها الواقع الذي رسمهُ الفيلم الأمريكي أفاتار “Avatar”، والذي أخذ أسلوب الفانتازيا ليعكس حقيقة سرقة ثروات الشعوب، فهي هاجمت بلسان واضح باريس وماكرون بكون السياسة الخارجية الفرنسية تنهب خيرات وثروات أفريقيا وشعوبها وتحقق مصالحها بدون أي اعتبار للقيم والأخلاق مسببةً الفقر والتخلّف في أفريقيا وتزايد الهجرة إلى أوروبا وإيطاليا، ومع حقيقة أن إيطاليا تأخذ حزمة من الدعم المالي من الاتحاد الأوروبي، إلا أن ذلك لن يمنع من انتهاج روما سياسات خارجية خاصة بها بعيداً عن الاتحاد الأوروبي بهويتهِ الليبرالية، فمازالت جورجيا ميلوني مؤيدةً للناتو وأوكرانيا على عكس الكثير من اليمينيين الإيطاليين الغير مؤيدين للعقوبات على روسيا في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، ومن الأهمية بمكان ذكر بأن الكثير من الأوروبيين والأمريكيين المحافظين متأثرين بالمفكر الروسي ألكسندر دوغين، على الرغم من أنهُ من المحافظين القوميين ولكن بمسار يساري وليس رأسمالي كما وصف نفسه عندما قيل له إنك تمتلك حضوراً فكرياً لدى المحافظين في أوروبا الغربية والولايات المتحدة.

البعد الدولي، في البداية لابد من إدراك حقيقة بأن الليبرالية الغربية انتصرت على الفاشية بعد الحرب العالمية الثانية والشيوعية بتفكك الاتحاد السوفيتي، ومن منطلق الهوية الليبرالية بين أوروبا الغربية والولايات المتحدة تكونت أدواراً في السياسة الخارجية والأمنية مثل حلف الناتو، لذا رجوع الفاشية أو القومية المحافظة في القارة الأوروبية سيؤثر على تماسك المنظومة الليبرالية الغربية، ويمكن لنا استشراف الغد والتمعن في حقيقة كون اتساع حضور اليمين المتطرف في أوروبا سيشجع مجتمعات وشعوب وأمم أخرى إلى بروز مشابه في التعصب عبر “رؤية التجانس الثقافي الكلي مقابل رؤية مضادة لجميع الأقليات الأخرى”، وهذا البروز سيكون لا محالة متضاد ومتصارع مع الدول والشعوب في الهوية الدينية والحضارية والعرقية.

الخاتمة، صعود اليمين المتطرف والتيارات القومية والشعبوية في أوروبا يُشكّل منعطفاً سياسياً خطيراً، لأنه يحاول الرجوع إلى الدولة القومية المتجانسة اجتماعياً وثقافياً وعرقياً في ظل ما يعيشه العالم من أطر العولمة وحقوق الإنسان، لذا فإن هذه المحاولة ستقود إلى حالة أخرى معاكسة نحو إيجاد حلول عبر منظومة سياسية وقانونية وثقافية تعمل على جعل التنوع البشري والثقافي في إطار تجدد الدولة القومية وصياغة أسسها القومية من لغة ودين وأعراق وأعراف وثقافات، فالتاريخ يؤكد حقيقة استمرار هجرة الكثير من البشر لأسباب البحث عن الاستقرار والأمن وتحسين الوضع المادي ومستويات المعيشة، والذي يترتب عليه دائماً خلق وتطور وتجدد المجتمعات والدول.