الولايات المتحدة لم تعد قادرة على الحفاظ على مكانتها

سيفان سعيد (أستاذ مشارك للدراسات الشرق أوسطية في جامعة شانشي الصينية، باحث في جامعة إكستر في المملكة المتحدة)_

يمكن للمرء أن يرى بسهولة، أن الأحداث الأمنية والسياسية منذ السابع من تشرين الأول، أثّرت بشكلٍ عميق على النظام العالمي. وبينما كانت تحث الولايات المتحدة روسيا باستمرار على وقف حربها ضد أوكرانيا، كما وصفت فلاديمير بوتين بأنه مجرم حرب، مع ذلك والعكس من ذلك، أظهرت الولايات المتحدة تردداً في التعامل مع مذبحة غزة والفظائع التي ارتكبت ضد الشعب الفلسطيني.

علاوةً على ذلك، تمتنع واشنطن عن وصف نتنياهو بمجرم حرب. ومن ناحية أخرى، ظهرت كل من روسيا والصين كمنافسين قويين لهيمنة الولايات المتحدة. إنهما يقتربان من بعضهما البعض، ويوسعان مقاومتهما ضد الهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.

يمكن القول إن هذا الصراع بين القوى العالمية الثلاثة يشمل ثلاثة جوانب: اقتصادية، وعسكرية، ودبلوماسية. بالإضافة إلى ذلك، يمارس العديد من الجهات الفاعلة والوكلاء الإقليميين والمحليين تأثيرهم على الأحداث في العديد من المناطق مثل مناطق الشرق الأوسط والبحر الأسود وبحر الصين الجنوبي.

كما ذكرنا أعلاه، هناك ثلاثة جوانب للصراع: 1- الجانب الاقتصادي والمالي. 2- الوجود العسكري والجانب الأمني. 3- المناورات الدبلوماسية وفرض الهيمنة. وتنعكس هذه الجوانب الثلاثة في السلوكيات التكتيكية والخطط الاستراتيجية لجميع القوى العالمية الثلاث في جميع المناطق.

ومن الناحية الاقتصادية، فإن كلاً من مبادرة الحزام والطريق مع قيادة الصين وطريق التنمية مع قيادة الهند مشروعان متشابكان يمكن أن يجعلا مزيجاً معقداً من المصالح تتداخل وتتنازع بين جميع القوى العالمية في نفس الوقت.

ومن الناحية العسكرية والأمنية، يمكن ملاحظة بسهولة أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على الحفاظ على مكانتها باعتبارها القوة العالمية الوحيدة. وفي الشرق الأوسط بشكلٍ خاص، تضاءلت الهيمنة الأمريكية، ما جعلها تعيد التفكير في استراتيجيتها وتكتيكاتها إلى حد أن الولايات المتحدة تدفع إلى إعادة النظر في سحب وجودها العسكري في المنطقة، أو على الأقل في سوريا والعراق.

ومع ذلك، فقد أدت الأحداث في غزة إلى إبطاء خطة سحب وجودها العسكري وكانت بمثابة دعوة للاستيقاظ للولايات المتحدة، وتسليط الضوء على كيف يمكن لأزمة غزة أن تمكّن روسيا والصين، إلى جانب وكلائهما الإقليميين، من الحصول على ميزة.

فيما يتعلق بالدبلوماسية، يمكن للمرء أن يفهم بسهولة أن هذا الجانب يزداد نشاطاً حيث تواجه الولايات المتحدة صعوبات في إدارة قضية الشرق الأوسط، ما يجعل من شبه المؤكد أنها لم تعد تحت سيطرتها. وهذا يعني أن روسيا ومن خلفها الصين خلقتا بذكاء أزمة أخرى ساخنة وجديدة جعلت الجميع ينسون الصراع في البحر الأسود والتوترات جنوب الصين. والآن تتعرض الولايات المتحدة لهجوم من الصين والقوى الوكيلة لروسيا مثل إيران. ويمكن استخدام مجموعات الميليشيات الشيعية التابعة لها في لبنان والعراق وسوريا واليمن وحتى في البحر الأحمر وبالطبع إلى حد ما تركيا كوكيل من قبل روسيا والصين لخدمة هذا الغرض. ومن هنا، تسعى الولايات المتحدة جاهدةً إلى إيجاد حلول دبلوماسية لتجاوز هذه الأزمة.

إن الرحلات المتكررة لأنطوني بلينكن إلى الشرق الأوسط منذ السابع من تشرين الأول، هي نتيجة نداء الاستيقاظ للولايات المتحدة التي تفقد هيمنتها بسرعة في المنطقة. ومع ذلك، فإن الخبر السار بالنسبة للولايات المتحدة هو أن جميع الدول العربية تقريباً قبلت خطتها للقضاء على حماس عسكرياً وإيجاد حل لشعب رفح وغزة المحاصر وإنقاذ نتنياهو من العدالة بسبب اتهامه بارتكاب جرائم حرب. في هذه الحالة، فإن كلاً من مصر والإمارات العربية المتحدة، باعتبارهما دولتين عربيتين رئيسيتين، سعيدتان بالخطة، ناهيك عن كل الأزمات الإنسانية للفلسطينيين وأكثر من 25 ألف ضحية على الأقل منذ 7 تشرين الأول.

وعلى العكس من ذلك، تستفيد الصين وروسيا من مجموعة البريكس والقوى الإقليمية مثل إيران وتركيا لدعم الخطة الروسية وتقويض هيمنة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في العالم. ويمكن القول، إلى حدٍ ما، إنهم نجحوا في استراتيجيتهم. ولذلك، فإن هذه الدبلوماسية المضادة النشطة لروسيا، تدفع الولايات المتحدة إلى إجبارها على تغيير خطتها مرةً أخرى.

وكما شهدنا عام 2011، حيث انطلق الربيع العربي، وأحدث تغييرات كبيرة في الأجندة الغربية في المنطقة. ومع ذلك، هذه المرة، تبحث الولايات المتحدة عن حلفاء أقوياء وموثوقين، حيث تفكر في تقليص أو إنهاء وجودها العسكري في المنطقة. والهدف هو إيجاد قوى جديرة بالثقة قادرة على حماية مصالحها. في البداية، بحثت الولايات المتحدة عن تحالفات مع الجماعات السنية في العراق وسوريا، لكن هذا أدى عن غير قصد إلى تمكين تنظيم القاعدة وداعش. وفي وقتٍ لاحق، تحول الاهتمام إلى القوات الكردية في العراق وسوريا. ومع ذلك، فإن الكرد في العراق ناضلوا من أجل إظهار وجود قوي لكسب ثقة الولايات المتحدة. في الوقت الحالي، تبدو قوات سوريا الديمقراطية هي الخيار الأكثر قابلية للتطبيق مع الحفاظ على علاقة متوازنة مع الولايات المتحدة في المنطقة.

علاوةً على ذلك، فإن هذا التحول في استراتيجية الولايات المتحدة قد يكون له آثار أوسع، ما قد يغير وضع الكرد في تركيا ويحفز ديناميكيات سياسية جديدة داخل الدولة التركية. في الآونة الأخيرة، سلط تقرير صادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) الضوء على العديد من النقاط الجديرة بالملاحظة. وأشار التقرير إلى أن حزب العمال الكردستاني قدّم مساهمات كبيرة في القتال ضد داعش إلى جانب القوات الأميركية. كما انتقدت تركيا لجهودها في مكافحة الإرهاب، بحجة أنها تشكّل تحديات لحلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة في المنطقة. وبالتالي، هناك احتمال أن يتم رفع حزب العمال الكردستاني من قائمة المنظمات الإرهابية، ما يمهّد الطريق لجولة جديدة من محادثات السلام بين الشعب الكردي والدولة التركية. ونظراً للظروف الحالية وفشل التحولات السياسية الجذرية التي جرت خلال الربيع العربي، فإن هذا يمثل وجهاً جديداً لاستراتيجية الولايات المتحدة الإقليمية.

ونظراً للوجود الهائل لروسيا والصين في المنطقة، تواجه الولايات المتحدة عقبات في التنفيذ الكامل لنظامها الجديد. وبالتالي؛ فإن المناورة الدبلوماسية أمر ضروري، سواء في مجلس الأمن أو عبر مناطق مثل البحر الأسود والشرق الأوسط. والهدف هو التوصّل إلى اتفاقيات مع روسيا والصين بشأن القضايا المذكورة سابقاً. يعد هذا النهج الدبلوماسي أمراً بالغ الأهمية لتجاوز المشهد الجيوسياسي المُعقّد وإيجاد أرضية مشتركة وسط المصالح والأجندات المختلفة.