سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

المجتمع المنفتح وأعداؤه

أحمد ديبو_

إن التاريخ لا ينزلق إلى اللاواقعي، إلا من أجل أن يُشخصن فيه على نحو أفضل ما هو ضروري، فيصبح السؤال: ماهي النتائج المتوقعة لو اتخذ قرار خاطئ في خضم تشابكات وصراعات مفتوحة على الغرب.
هذا سيُشرِك استكشافاً للتشابكات المحتملة والضرورية، هذا الجدل، كما أرى، ينطلق في اتجاهين مختلفين: من جهة باتجاه الحبك، ومن جهة ثانية باتجاه التفسير العلمي لما يجري وسيجري في حال اتّخذ القرار الخاطئ.
إن شمال وشرق سوريا أضحى مختبراً استثنائياً للمحتمل القادم؛ فإما إن تتطور الحوادث باتجاه الصدام، أو أن تفتح مسارات بديلة لها طابع ديموقراطي تكون حاسمة في حل عقدة العقد.
 وهكذا يُعطى وزن لاستئصال عامل التفجير الكامل الآتي من نيات التقارب التركي “الأردوغاني” والسوري “الأسدي” برعاية “ظاهرية” روسيّة و”باطنيّة” إيرانية.
لابد من رسم خريطة سياسية تحيط بتجربة “الإدارة الذاتية”، لكي نعرف حجم التحديات المحيطة بعملها، أضف إلى ذلك التحديات الاجتماعية الموروثة من عهود الاستبداد، والتي سيتطلب معالجتها جهوداً لا تقل خطورة عن تلك المحيطة بها.
إذاً، هؤلاء هم الأعداء الذين يقفون حجر عثرة في طريق نجاح تجربة الإدارة الذاتية، في سعيها لبلورة رؤية حضارية ونموذج يحبك النسيج المجتمعي المتنوع الأثنيات، والمتعدد اللغات واللهجات.

الإمكانيّة الموضوعيّة
كيف بالإمكان بناء مجتمع سليم يكون مؤهّلاً لتفادي كل أمراض المجتمعات المحيطة به؟، ويكون مؤهّلاً لممارسات مدنيّة حضارية ديمقراطية في ما بين شرائحه وتنوعاته، ومع محيطه؟، إذا لم ندخل في تدبرنا ما يُسميه فيبر “قاعدة تجريبية” أي، في التحليل الأخير تطوير معرفي يجب أن يسمى “قيم معيارية”، هي تكون قواعد علمية تستند على التجربة تجعلنا نقول أن هذه الظاهرة، أو ذلك الحدث كان بسبب خلل بنيوي ساعد في ظهوره، أو أعاق ظهوره، وهكذا نتخلّص من سوء الفهم، ونضع إصبعنا على الجرح والدواء في آنٍ معاً.
إن امتلاك هذه المقدرة هي علاقات سببية نكون قد بنيناها عقلياً عبر مؤسسات ذكيّة، بحيث يصير بالإمكان تحقيق نتائج علمية ناجعة وسريعة لأية ظاهرة، أو أي حدث، قد يؤديان إلى زعزعة البنيان أو فرملته. بل إن تلك الظاهرة، أو ذلك الحدث، سيتفتتان إلى سحابة غبار لا أكثر.
أعداء كثر: أخطرهم الخطر “الداعشي” و”الإخواني”، وكذلك “البنية العشائرية” التي تقوّض المؤسسات المدنيّة، ولا ننسى بعض الأمراض “العنصرية” المنتشرة بين الشرائح، وبين الأفراد، وهي كائنات لها القدرة على التكاثر والتناسل بسرعة مباغته، إذا لم يتم كبحها بسرعة.
إذاً، لنعترف أن الأحمال الملقاة على عاتق “الإدارة الذاتية” هي أحمال تنوء من تحتها الجبال، ومع ذلك نراها تقوم على قدم وساق لاستعادة حقوق سكانها التي كانت مهدورة، من قبل الأنظمة الاستبدادية التي عاثت خراباً في بنية هذه المجتمعات، وكذلك لم تزل تحاول تأمين التطور الديمقراطي، وتقف كالطود في رفض مبدأ الوصاية لأي فئة أو شعب من شعوب هذه المنطقة، والمساهمة من هذا الموقع في حوارات منفتحة ومسؤولة مع كل الأطراف المتداخلة للمنطقة، وذلك من أجل بناء عالم أكثر توازناً، وتضامناً، وعدلاً، حوراً عقلانياً قائماً على التمسّك بالقانون الدولي، وبالشرعية الدوليّة، ونبذ منطق القوة والتفرّد.
وفي هذا المضمار الشائك، تجهد الإدارة الذاتية أن تركّز على التسوية التي تقتضي طرح العناوين التي يجب أن يتفق عليها ويقبل بها الجميع.
فالتركيز على إعلاء سيادة القانون، واستقلالية القضاء، واحترام حقوق الإنسان، وكف يد الأجهزة الأمنية عن التدخّل في الحياة العامة، والعمل على إصلاح السياسات المالية، والواقع الاقتصادي، والاجتماعي، والمناداة بقانون انتخابي عادل، وضمان إشراف محايد ونزيه على الانتخابات.
أليسَ هذا كافياً كي يجلب لـ “الإدارة الذاتية”، كل هؤلاء الأعداء؟!…
رغم ذلك فالإدارة الذاتية لا تساوم على العلمنة، ولا على العدالة الاجتماعية، ولا على البعد الإنساني النهضوي لشعوب المنطقة، ولا هي تستسلم للشعارات المثالية، بعيداً عن واقع مُعقد له أمراضه، وبيئته، ومصالحه المتناقضة أحياناً.
نعم، بوجود قوة مثل “الإدارة الذاتية”، فإن رأس المال الرمزي لليسار لم يعد محض مُقدّرات لفظية، وهالات معنوية، يتغطى بها آخرون ويستخدمونها وهماً متى شاؤوا.
فأهل اليسار الديمقراطي وكل العلمانيون أصبحوا شركاء حقيقيين، وممثلون لمعنى وتوجهات الإدارة الذاتية.
تحالف هذه القوى سيكون قوياً وجودياً في وجه أعداء التجربة، وأعداء المجتمع المنفتح في “روج آفا”.. وهو لا ينبع من مجرد سيكولوجيا اكتشاف الضرورات، أو علاقات سببية غير واقعية بنيناها وهماً، بل هو ما يمكن أن يطلق عليه، أو ما يكوّن البنية المنطقية للمعرفة التاريخية، أو بكلمات ماكس فيبر “بنية هيكلية لأسباب الوجود”.