يمسك الطفل المغربي إسماعيل بآلة الغيتار وعيناه لا تفارقان النوتة الموسيقية، يحاول بكامل تركيزه عزف مقطع من سيمفونية “أنشودة الفرح” لبيتهوفن.
يكرر هو وأصدقاؤه محمد وحفصة المحاولة عدة مرات تحت إشراف أستاذهم وتوجيهاته، يتلمسون خطواتهم الأولى في عالم الموسيقى السحري، ويعزفون على أوتار الغيتار ألحاناً مبهجة داخل قاعة الموسيقى في مستشفى الأطفال ابن سينا بالرباط.
يأتي هؤلاء ثلاث مرات أسبوعياً إلى المستشفى الحكومي، حيث يتلقون العلاج من داء مزمن ينهش أجسادهم الغضة، ووجدوا في درس الموسيقى لحظات مسروقة تأخذهم من سرير المرض ومرارة الدواء وألم الإبر إلى عالم جديد ومبهر.
تجربة فريدة
أطلقت مؤسسة عبد الرحمن فنيش، بتعاون مع وزارة الشباب والثقافة والتواصل، تجربة فريدة وغير مسبوقة تتمثل في تخصيص قاعة في مستشفى الأطفال بالرباط لتعليم المرضى الموسيقى ضمن مشروع فني وثقافي عنوانه “الموسيقى تستقر في المستشفى”.
ويشرف ستة أساتذة متطوعين على تعليم الموسيقى خمسة أيام في الأسبوع، للأطفال الذين يقيمون في المستشفى أو يترددون عليه في أوقات منتظمة لتلقي العلاج.
يستفيد من هذه المبادرة حالياً 12 طفلاً، أمراضهم مختلفة ومعاناتهم متشابهة، لكنهم في قاعة الموسيقى يتشبثون بالحياة والأمل بينما أصابعهم تستكشف مختلف الآلات الموسيقية.
(أ.س) (13 عاماً) أضفى تعلم الموسيقى على حياته ألواناً من البهجة، وكان قد توقف قبل سنتين عن متابعة دروسه بسبب تداعيات مرضه، فتشبث بحصة الموسيقى خلال زيارته للمستشفى تشبث الغريق بقشة أمل، حتى أنه يحضر حصتين ويتعلم العزف على آلتين هما الغيتار والبيانو.
يبدو هذا الطفل متحمساً جداً لتعلم الموسيقى، يخبر أستاذه في وقت الاستراحة عن محاولته صنع غيتار في البيت ليتدرب عليه، يقول والابتسامة لا تفارق شفتيه إنه سيصبح موسيقياً مشهوراً وماهراً في المستقبل.
أبدى زملاءه اهتماماً بالغيتار ورغبة في تعلمه خلال حصة الموسيقى مع هشام بنموسى، وهو أستاذ الموسيقى بالمعهد الوطني للموسيقى ويدير مدرسة خاصة.
كان بنموسى يشارك في بعض الفعاليات بالمستشفيات حيث يتم تنظيم حفلات فيها غناء وعزف لنزلاء المستشفى، ووجد في تجربة “الموسيقى تستقر في المستشفى” فكرة مختلفة تجاوب معها بسرعة وتطوع لتعليم الأطفال المرضى.
يعلو الارتياح محيا هشام لتجاوب الأطفال مع دروسه، وللتقدم الذي أظهروه خلال حصصه، فأهمية هذا المشروع بالنسبة له- تكمن في منح الأطفال فرصة لممارسة أشياء جميلة تبعدهم عن أجواء الألم والمرض.
قاعة الموسيقى
أشرفت نجلاء فنيش عضو مؤسسة الدكتور عبد الرحمن فنيش، على تجهيز قاعة الموسيقى في المستشفى وفق شروط ومعايير دقيقة.
تقول إنها كانت تعمل طيلة أيام الأسبوع، من أجل تحويل القاعة التي خصصتها إدارة المستشفى إلى مكان عازل للصوت ومناسب لتعليم الأطفال الموسيقى.
وأشرفت مساعدة اجتماعية وطبيب نفسي على اختيار الأطفال المؤهلين للاستفادة من هذه التجربة، ويتعلق الأمر بأطفال مقيمين بالمستشفى أو يزورونه أياماً منتظمة وتسمح لهم ظروفهم الصحية بحضور الدروس والاستمرار فيها.
أفكار نجلاء
كانت فكرة مشروع “الموسيقى تستقر في المستشفى” مستوحاة من حوارات تسجيلية للدكتور عبد الرحمن فنيش. وكان الراحل طبيباً وموسيقياً وفناناً نذر حياته القصيرة لنشر الفن والموسيقى قبل أن توافيه المنية نهاية الثمانينيات وهو في منتصف عقده الرابع. وأنشأت أسرته مؤسسة باسمه سنة 2018 للحفاظ على تراثه ونشر أفكاره ورسالته وجعل الموسيقى في متناول الجميع.
تقول نائلة فنيش رئيسة المؤسسة: “كان والدي يتحدث دائماً في حواراته عن أهمية العلاج بالموسيقى، وكان يستشهد بابن سينا والفارابي والكندي وأفكارهم حول علاج الأمراض النفسية والعضوية بالموسيقى، ويدعو إلى السير على نهجهم”.
وأشارت إلى أن المستشفيات في مدينة فاس كانت تعالج المرضى بالموسيقى حتى ستينيات القرن الماضي، حيث كانت تستضيف فرق الموسيقى الأندلسية للعزف للمرضى، وكان الأطباء يلمسون تحسناً في صحتهم.
أراد أفراد عائلة فنيش تحقيق رغبة والدهم الذي لم يمهله الموت لتنفيذها، ففكروا في الانطلاق من الماضي، فكان مشروع تعليم الأطفال الموسيقى في المستشفى، بعد مشاريع سابقة جهزوا خلالها قاعات بآلات موسيقية ونظموا حفلات موسيقية في المستشفيات.