العزلة … التجريد … اللاإنسانية المتبعة في إيمرالي

دجوار أحمد آغا –

رغم مرور أكثر من اثنين وعشرين عاماً على المؤامرة الدولية – والتي كانت من النوع الذي لا يُبقي حتى على وميض صغير من الأمل – بحق القائد والمفكر عبد الله أوجلان التي أدت إلى أسره ونقله إلى سجن في جزيرة إيمرالي, إلا أن الظروف القاسية المفروضة على القائد, لا يستطيع إنسان عادي أن يتحملها, ومن أشدها وطأة عليه؛ التجريد والعزلة الممارسة بحقه منذ بداية أول يوم من أسره في الخامس عشر من شباط 1999, هذه العزلة التي لم تتوقف لحظة إنما اختلفت شدتها وأسلوب تطبيقها من فترة إلى أخرى. في مرافعاته التي صدرت عام 2010 في السجن يتحدث القائد عن حياته اليومية في المعتقل والظروف التي يمر بها, وكيف أنه يتحمل العزلة المفروضة عليه مبيناً مدى مقاومته تجاه هذه العزلة التي أعدها النظام بشكل خاص وطبقها عليه وحده. يُعرف القائد إيمرالي على الشكل التالي:

“ايمرالي ذائعة الصيت تاريخياً بكونها جزيرة تُطبق فيها الأحكام الصادرة بحق مسؤولي الدولة رفيعي المستوى. مناخها رطب للغاية, وقاس للغاية, وأقرب إلى تحطيم بنية الأنسان جسدياً“.

تقع هذه الجزيرة في بحر مرمرة, تبلغ مساحتها حوالي 10 كم2 وهي تتبع إدارياً لولاية بورصة, كانت مكاناً لسجن وإعدام القادة والسياسيين رفيعي المستوى المعارضين للنظام, ومن أهم الشخصيات التي نُقلت إليها عدنان مندريس رئيس الوزراء التركي مع اثنين من وزرائه هما وزير الخارجية فطين رشدي زورلو ووزير المالية حسن بلاتكان في أعقاب انقلاب 27 أيار 1960 الذي قاده الجنرال جمال غورسيل. فيما بعد تم إعدام مندريس ووزيريه بينما بقي رئيس الجمهورية جلال بيار محكوماً مدى الحياة. كان القائد أوجلان نزيلها الوحيد منذ عام 1999 وحتى سنة 2009 وفيما بعد نُقل إليها عدد محدود من السجناء لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد الواحدة.

لم يكتفِ أصحاب المؤامرة بهذا الحال بل عمدوا إلى عزل القائد في حجرة منفردة ومغلقة داخل السجن سيئ الصيت وقطعوا تواصله مع العالم الخارجي إلا من إذاعة ذات محطة بث واحدة فقط, إلى جانب بعض الكتب والمطبوعات التي تقررها إدارة القوات الخاصة التي كانت تراقبه لمدة طويلة من الزمن.

العزلة والتعذيب النفسي والجسدي الذي تعرض له القائد منذ اليوم الأول له في هذا المعتقل, – خاصة وهو يبلغ الخمسين من العمر – وعدم تمكنه من التواصل مع العالم الخارجي سوى من خلال اللقاءات مع العائلة والتي كانت مدتها نصف ساعة كل عدة شهور, بالإضافة إلى اللقاءات مع محامييه كل أسبوع والتي كانت تلغى بذريعة سوء الأحوال الجوية ثم ألغيت كلياً فيما بعد. اعتمد القائد في مواجهة هذه الأساليب القاسية في التعذيب على ذهنه وإرادته حيث كان قد هيأ نفسه للوحدة منذ أمد بعيد متجرداً من ساحة العلاقات سواء العائلية أو الأصدقاء أو المرأة . يذكر القائد بهذا الصدد بأنه خلال أيام دراسته الثانوية كان قد كتب موضوعاً إنشائياً نال عليه العلامة التامة من قبل أستاذ الآداب وكان بعنوان “أنت طفلي الذي لن يولد أبداً” أراد فيه أن يتناول مسيرة طفولته الشاقة.

كيفية تحمل العزلة المفروضة بنحو مخصص للقائد, دفعت به إلى عدم البحث عن العوامل الأساسية في الظروف المحيطة أو في مواقف الدولة, بل اتجه نحو إقناع نفسه بظروف العزلة وضرورة التحصن بحجج بمبادئ عظيمة وسامية تمكنه من تحمل ظروف العزلة, لذا توجه القائد إلى البحث عن نقطتين مهمتين جداً في هذا الإطار ألا وهما:

أولا – ما يتعلق بالوضع الاجتماعي للكرد حيث ينطلق القائد من فكرة مفادها أنه إذا رغب في حياة حرة, يتعين أن يكون المجتمع المنتمي إليه (الكردي) مجتمعاً حراً أي أنه لا يمكن للحرية الفردية أن تتحقق دون حرية المجتمع وبالتالي فإن حياة الكرد عبارة عن سجن مفتوح حالك السواد.

ثانيا – الحاجة إلى الالتزام بمبدأ أخلاقي، إذ لا بد للإنسان من إقناع نفسه وتوعيتها حول أنه لا يمكنه العيش بعيداً عن المجتمع, وأهم وعي أنشأه الحداثة كان الفكر الليبرالي والذي يقنع الفرد بإمكانية عيشه من جدون أواصر اجتماعية.

 يتوصل القائد  من المقارنة التي قام بها مطولاً بين السجن الداخلي والخارجي إلى نتيجة مفادها:

 “إن حالة الأسر في الخارج أكثر خطورة على الفرد. بمعنى آخر, عيش الكردي بقناعة منه على أنه حرٌ خارج السجن, هو محض خداع وزيف وخيم”. لا بد للإنسان الكردي من السعي الحثيث لأن يصبح مناضلاً من أجل الوجود والحرية على مدار الساعة. وأن لا يلتفت إلى العبارات التي تروج لها القوى الاستعمارية من قبيل “الداخل سيئ والخارج حسن” أو “المسلح سيئ والأعزل حسن”.

 بما أن حياة الإنسان لا تُثمن إلا إذا كانت حرة, فأينما كان العيش المجرد من الحرية يصبح ذلك المكان سجناً معتماً في جميع الأوقات. السجون ليست بيوت شحذ وتقويم شخصية الإنسان فقط, بل هي أماكن يتم فيها تعلم كيفية آداء الواجبات الأخلاقية والإدارية تجاه المجتمع بمهارة كفؤة. ونرى في هذا السياق كيف أن القائد أوجلان قد حول هذا السجن إلى أكاديمية لبناء وعي المجتمع من خلال مرافعاته التي رفعها للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان, ولم يستسلم لظروف العزلة القاسية المفروض عليه بل على العكس من ذلك تماماً، حطم العزلة بفكره النير والحر, فنحن المسجونون وليس هو.     

نستخلص مما سبق أن مقاومة العزلة والتجريد القاسي المفروضة على القائد أوجلان تتطلب جهوداً جبارة وإرادة استثنائية لا يمتلكها إلا رجال استثنائيون لا يتكررون في التاريخ والقائد عبد الله أوجلان واحد منهم. نختتم مقالنا هذا بالرسالة التي أرسلها القائد أوجلان إلى رئاسة محكمة حقوق الإنسان الأوروبية ستراسبورغ – فرنسا قبل أحد عشر عاماً, حيث يذكر في الفقرة الختامية:

“السادة: رئيس المحكمة والقضاة الموقرين:

أُشير مرة أخرى إلى أن العزلة الخاصة المطبقة علي في سجن إيمرالي, والقوانين التي ذكرتها, والتي استصدرتها تركيا بذريعة مواءمتها للقانون الأوروبي؛ تُخالف القوانين في مضمونها, وتشذُ عنها. وأُنوه مرة أخرى أيضاً إلى عدم قيام المفوضية بإعادة المحاكمة لصالحي, يُخالف قراركم الأول, أي قرار “إعادة المحاكمة”. أما قبولكم – أنتم أيضاً – بقرار المفوضية بعدم ضرورة إعادة المحاكمة, والذي لم تتخذ قراراً مثله بشأن أي كان سواي؛ فهو إجحاف جائر وتحُول إلى أداة في خدمة المؤامرة. لذا, وكحد أدنى, أُشدد بأهمية فائقة على تعديلكم قراركم ذلك من خلال القرار الأخير الذي ستصدرونه لصالحي, وإضفائكم بهذا الشكل الاستحقاقية على حقي في “إعادة المحاكمة”؛ وأُعرب لكم عن رغبتي هذه مع فائق تقديري”.

المحكوم عليه بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة

عبد الله أوجلان