الطبُّ والشعرُ في العقل البشريِّ الواحد

عبد الله رحيل_

---

كنت أتساءل دائما عن طبيعة التكوين الفكري، والنظري لأطباء كثر، أتقنوا فن الأدب والشعر وبرعوا فيه، إلى جانب حذقهم صناعة الطب وخصائص الأدوية، فنبغوا فيها، وظلت هذه الفكرة تخبو بين عيني؛ محاولا تفسيرها زمنا طويلا، فلعل هناك رابطة تجمع بينهما، وكثيرا ما كنت آمل أن أجد ما يبلّغني إلى ضالتي المنشودة، غير أني ماكنت دائما أثبت لنفسي، أن هناك توافقا، ولو قليلا، بينهما حتى اهتديت إلى فكرة أحد العارفين، الذين شغلتهم طريقة تكوين فكر هذه الفئة النابغة من البشر، وقد سبر أغوار العلاقة الوثيقة بينهما.

 فقد شبه هذا الحكيم العلاقة بين إجادة الطب، وفن الشعر والأدب والبراعة فيهما في شخص واحد، بنحلتين حامتا حول زهرة واحدة، ثم امتصتاها؛ فأخذتا رحيقها ثم سكبتاه عسلا صافيا في إناءين مختلفين، وبهذا التخييل المبدع، قد آنست الحقيقة، والقناعة، وطويت التساؤل الذي جال في خاطري سنوات عدّة من البحث والتقصّي. لكن الجامع الأمثل لصناعة الطبّ والإجادة فيه، والتمكن لفن الشعر والأدب عموما، هو التفرّد بميزان الشعور النفسي، والغوص في حدس معالجة الأمور، سواء أكانت مَرضية، أم تفسيرا لواقع أو أخلاق متردية، أو حسنة مقبولة، فالشاعر والطبيب كلاهما يمتلكان الحدس الصائب في المعالجة، حيث أن حدس الطبيب يمكنه معالجة الداء بالمنطق الطبي في إيجاد الدواء له، والشاعر أيضا يقوده الحدس والعاطفة في تصوير الداء المجتمعي أو النفسي، ثم قول الشعر فيه، وربما الإيعاز إلى معالجته.

والطبيب يشخّص أمراض الناس؛ فيوصف الدواء الناجع لها، والشاعر يرى الأمراض الاجتماعية، ويسوقها بألفاظ حكيمة دقيقة التصوير، في صور بلاغية، وبأسلوب شعري، وبهذا المعنى والفهم، يعالج الطبيب الأفراد منفردين، بينما الشاعر يعالج أمة بأكملها من خلال طرح الحكمة في التصوير، ونقد الواقع وربما فضحه، وتصوير آلام النفس والشعور، المؤدية إلى علاجها، وبهذا يصبح الطبيب طبيب أجسام، والشاعر طبيب أرواح.

الطبُّ جانب من فنون الأدب

ثم إن دلالة تقسيم الفنون منذ القدم تعد الطب نوعا، وقسما من الأدب، فهو كالهندسة، والعلوم، والكيمياء معدودات أقساما من الأدب، فلهذا كان أغلب الأطباء يدرسون اللغة، ويغوصون في مدركاتها وفنونها وعلومها، مبرزين بيانها ونحوها، حتى برعوا في التأليف في غاياتها، وأخبار أهلها، منظمين عقود دررها، ثم عرجوا راغبين قيافة أثار الطب، والأدوية، وعلاج الأمراض المستفحلة، فكانوا رسل الأساة، الذين اهتدوا إلى مسالك صناعة الطب، وبرعوا فيها، وأجادوها؛ حتى قدموا للبشرية جمعاء العلاج الناجع لكثير من الآفات والجوانح، التي سامت البشرية سوء المنقلب، مؤلفين كتبا ونظريات حول الأدوية والأمراض، وطرق علاجها، فبلغت شهرتهم الأفاق وأصبحوا منارة هداية لكثير من الأكاديميات، والجامعات العالمية، تُدرِّس، وتُعلّم منهجهم في قيافة الطب ومسالكه.

وإن تتبعنا جداول الأطباء، والشعراء والأدباء في تمرس الفرد منهم هذه المهن، والصناعة، فنجد الكثير والجم في بحر علوم اللغة والطب، فمنهم الحسن بن نجا الأربيلي، فيلسوف، وطبيب، وأديب بارع  ت 660 هـ، والحسن بن أحمد الحائك ت 334 هـ، المشهور بابن الدمينة الشاعر الذي برع في الطب، واللغة، والفقه، وأشعار العرب وأنسابها، وخالد بن يزيد الأموي ت 85هـ،  نبغ في الطب والأدب، والكيمياء، وخليل بن أحمد المشهور بابن النقيب ت 1008 هـ، والدكتور رشيد معتوق لبناني الأصل ت 1895هـ، جرّاح ماهر، وأديب شاعر، وأبو الفرج الأصفهاني الأديب المعروف، وصاحب كتاب الأغاني، الذي يقع في 24 جزءا من الأدب، والشعر والأخبار، والنوادر الأدبية، و كان من أدباء بغداد، وله معرفة بعلم الجوارح، والبيطرة، والطب، ومعرفة النجوم ت 356 هـ، وعبد السلام العجيلي في العصر الحديث، كان طبيبا ماهرا، وقاصا وأديبا له مؤلفات عديدة في العِلمين، لكن أشهرهم ابن سينا الطبيب والأديب، الذي بلغ الأفاق شهرة وتميزا كبيرين، بين أقران عصره، وأهميته العظمى في إجادة الصناعتين.

مكانة الطبيب والأديب ابن سينا

الشيخ ابن سينا أبو علي الحسين بن الحسين بن علي بن سينا، عالم وطبيب مسلم، ولد في أوزبكستان عام تسعمائة وثمانين ميلادية، لقب بأمير الأطباء، وأعظم الحكماء قرين أبقراط في الطب، وأرسطو في الحكمة عند غير العرب، وقد أجمع العلماء والمؤرخون أن شخصية ابن سينا ظاهرة فكرية عجيبة دوّنها التاريخ في الفلسفة والطب، كان بارع الذكاء فقد حفظ القرآن الكريم، وهو في سن العاشرة من عمره محبا للسفر؛ سعيا للعلم، له مؤلفات كثيرة في الطب، والفلسفة، وعلم الفقه الإسلامي، ونبغ في تأليف الآداب المختلفة، وله أشعار كثيرة تدعو إلى التفكير، أطلق عليه الغربيون لقب أبي الطب الحديث، وأمير الأطباء، وهو أول من كتب، وألف في الطب في العالم، وتوفي عام سبع وثلاثين وألف ميلادي، وقد ترك زادا وفيرا من المؤلفات” والآراء العلمية والفلكية، فهو أول من اكتشف أن الصوت يسبق الضوء، وتحدث عن العلاقة بين السمع، والتموجات الهوائية، واخترع جهازا لرصد النجوم، وقد ألّف كتابا سماه القانون، وذكر فيه نحو سبعمائة وستين دواء لأمراض مختلفة، لكن تعدى مادية الطب إلى الحالة النفسية، لما لها من تأثير صحي، فيعد من أوائل العلماء، الذين تحدثوا عن العلاج النفسي، وهو أول من فرق بين أنواع الشلل فيما كان بأسباب خارجية، أو بأسباب داخلية، وأول من تحدث عن السكتة الدماغية، وتعدى رأيه الطبي إلى أمراض عديدة من أمراض النساء، فهو أول من وصف الانسداد المهبلي، والأورام الليفية وحمى النفاس، وهو أول من شرح قلب الجنين وقسمه إلى أربعة أقسام: وقد وصف الجدار الفاصل بين الأذنين، وقال في هذا: “إن هذا الثقب يسد حالا عندما يتنفس المولود لأول مرة، وبذلك تبتدئ الدورة الدموية الرئوية” كما برع في علم الفيزياء، فاخترع آلة لقياس الطول بدقة متناهية، وقد وصف الحركة والسكون قبل العالم الفيزيائي نيوتن المشهور بقوانينه الفيزيائية للحركة.

أدب ابن سينا

 وعلى النقيض من ذلك عرج نحو الشاعرية، والإحساس المكلف في قول الشعر وقرضه، فقد أحب موسيقا الشعر، وقال عدة قصائد ورباعيات طويلة، كما نبغ في تأليف علم الرياضيات، مثل كتبه مختصر إقليدس. ومختصر المجسطي. ومختصر علم الهيئة، ورسالة الزاوية.

ولكن حينما تشوقنا الكلمة الدقيقة المعنى، وجمال الأسلوب الشعري، وإبداع الصنعة البديعية، واللفظية، ننتشي بقول الرئيس ابن سينا في الشعر عامة، فقد ملك اللفظ، وأجاد فيه، واعتنى بحسن الصياغة الشاعرية، ووظف المعاني الفلسفية القائمة على التفكير بالعقل والمدارك الحسية توظيفا علميا، يبحث فيه عن مدارك النفس والإحساس، فقد كان شاعرا بليغا دقيق المعنى حسن النظم، نفيس المعاني، ذلك يتأتّى بعميق الخيال الصوري، وتتمازج عنده الحكمة والفلسفة، وعن نبوغه في العربية والآداب المختلفة، يظهر في مجلس  جمعه مع علاء الدولة في أصفهان، وكان في المجلس أبو منصور الجبائي، وكان إماما في اللغة والمعرفة الأدبية، فدار في المجلس كلام عن اللغة العربية وآدابها، فتكلم الشيخ ابن سينا فقاطعه أبو منصور الجبائي، وقال له: إنما أنت مُسَلَّمُ الفضيلة في العلوم العقلية، أما اللغة فلست فيها حجة” فسكت الرئيس عن ذلك، وأخذ يتعلم علم اللغة في الخفاء، حتى أجادها إجادة بارعة في ثلاث سنوات، فقال قصائد وأشعارا يعجز أهل عصره عن مجاراته، ومما دعاه إلى تحدي أبي منصور الجبالي، أن ألف رسائل عدة في الأدب، ودفعها إلى الملك علاء الدولة، فقرأها وأعجب بها ثم طلب الملك علاء الدولة، أن يفسرها أبو منصور دون أن يعلمه أنها للرئيس ابن سينا، لكنه عجز عن تفسيرها، فطلب ابن سينا في مجلس الملك علاء الدولة، فأخذ يفسر لأبي منصور الجبالي ما عجز عن فهمه، فعلم أبو منصور أن هذه الكتابات هي للرئيس ابن سينا؛ فخجل منه، واعتذر. ومما قاله في الشعر البليغ:

 هذّب النفس بالعلوم لترقى

 وذرِ الكلَّ فهي للكلّ بيتُ

 إنَّما النفس كالزجاجة والعلم

 سراجٌ وحكمة الله زيتُ

 فإذا أشرقت فإنَّك حيٌّ

 وإذا أظلمت فإنَّك ميتُ

لكن ابن سينا، الرئيس الشاعر والطبيب، قدم وصفا مثيرا للنفس البشرية، وطريق اقترانها بالجسد، الذي هبطت إليه من مكان سام شاهق، تُفسر حياته وتقترن بها، وهي التي تفارقه بموته، يصورها بمعنى فلسفي عقلي، مدرك بصيغة شاعرية فذة:

“هبطت إليك من المحلّ الأرفع

ورقاء ذات تعزّز وتمنّع

وصلت على كرهِ اليك وربما

كرهت فراقك وهي ذات تفجع

حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها

في ميم مركزها بذات الأجرع

علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت

بين المعالم والطلول الخضّع”

وبهذا تُفهم الصبغة الغالبة عند مؤلفات ابن سينا، وهي الصبغة الفلسفية، وتفسير الوجود بأسلوب الشاعر، والأديب المتفحّص، الذي شغل المهتمين بجانب الفلسفة والأدب، واقترانهما بالطبّ، وهو الطبيب والشاعر، الذي أثبت وجود النفس، واستقلالها عن الجسد.

وعلاج خاتمتنا للعلاقة بين الشعر والطب يكمن في إحساس النفس لبؤرة العلاج والغوص فيها، والتعمق في متابعة الحقيقة الدامغة لطب جسد، أو علاج روح، وبسموِّ الإنسان بنفسه إلى استعمال العقل، الذي أهداه له الخالق، حيث يمكن أن يحوز به ما شاء من التميز والإبداع.

وقد أدرك ابن سينا، أن الوهن نصف الداء، والاطمئنان نصف العلاج، ونصرة الحق شرف، ونصرة الباطل سرف، والعقل البشري قوة من قوى النفس، لا يُستهان بها، ومن ناحية العمل: المستعدّ للشيء تكفيه أضعف أسبابه.