في بلدٍ رعوي شاسع مثل السودان، قد تستغرق رحلة الأبالة ما يزيد على شهرين، يتخذون فيها وسيلة نقلهم الأمثل والأفضل، وهي ظهور الأبل، إذ تحملهم إلى بلدٍ لم يكونوا بالغيه إلا بشقِ الأنفس، إنها “الشبرية”، أكثر بيوتهم فخامة.
يعدُّ الهودج أو الجحفة إرث ثقافي وجمالي ضارب في أعماق التاريخ البدوي السوداني، وهو بيت أفراح متنقل ينتشر بين القبائل التي تقطن إقليم كردفان غرب السودان، بخاصةٍ بين ملاك ورعاة الإبل، ويستخدم عادةً في تنقلاتهم وترحالهم شمالاً وجنوباً، بحثاً عن الكلأ والماء وإتقاء تقلبات الطقس.
يقول الباحث في تراث منطقة كردفان محمد عثمان الحلاج إن: “الأبالة أصحاب ورعاة الإبل يشيدون الشبرية أو الهودج أو الجحفة، فثلاثتها أسماء لمسمى واحد، ولأنه كما يقولون قديماً، إن كثرة الأسماء تدل على عظمة المسمى، فالشبرية عند الأبالة مظهر من مظاهر العظمة ودليل التزام إرث ثقافي عامر”.
مكونات متنوعة
تُصنع الشبرية على هيئة قبة من الأخشاب الرفيعة، وتكون كسوتها من الشعر المنسوج “الشِمال” (مفردها شَمْلة) أو من القماش ذي الألوان الزاهية، وهي تشبه المنزل المتنقل المُشيّد على ظهر الجمل، إلى حدٍ بعيد، إذ تستغلها النساء والأطفال في تنقلهم وهي محمولة على ظهر البعير.
ولعل أكثر أشكالها تميزاً تلك التي تحمل عليها العروس، فإلى جانب زينتها المألوفة يضاف إليها جرس له رنين متصل يميز موكب العروس وبعيرها الذي تمتطيه، عطفاً عن مقتنياتها وعتادها الذي يوضع بجانب الشبرية، وهو عبارة عن مصنوعات جلدية مثل القراف (مفردها قرفة) والجربان (مفردها جراب)، وفيها توضع متعلقات العروس من عطر وأدوات زينة وتجميل وأزياء، وحاجاتها الأخرى.
بيت أفراح مُتنقّل ينتشر بين القبائل
دخل الهودج أو الشبرية ثنايا الأغنيات الشعبية من أوسع الأبواب كدلالة لأهميتها في حياة البدو غرب السودان، ومن أشهر هذه الأغنيات “الراكب الشبرية بالله حن عليا”، و”بفارق المدينة وبتابع السعية”، في حين يتم تبجيل العروس التي يحملها الهودج بمقطع يقول “الغالي دهب كوبي جمالاً جن”. كما تُوصف رحلة النشوق بمقطع يقول “رقاب القوز يا طنك كان بقيت قش يرعنك”. وتغني فتيات قبيلة الكبابيش للشاب الذي يزين الجمل “البشاري” بمقطع، يقول “سرجك على مكرب من سودري وغرب”، و”يا الناشق أتدرب نجم الخريف قرب”.
والهودج يحمل دلالات الجمال والعز والفرح والفخر، إذ يستخدم في مناسبات الزواج لنقل العروس من منزل العائلة إلى عش الزوجية ويكون مزيناً بوشائح ملونة، وأحياناً يكون مشغولاً بالذهب والفضة والأحجار الكريمة ويُشكّل لوحة بالغة الجمال والثراء والفخامة، ويعبّر عادةً عن المكانة الاجتماعية للعروس أو العريس وأهلهما، وهو تقليد راسخ لدى الأبالة في مختلف أرجاء البلاد، وفي الغالب ينتخب الجمل الذي يحمل الهودج بعناية فائقة تتطلب أن يكون من النوع الذي يمتاز باشتراطات عدة، أبرزها المشي على مهل أي ببطء.
متجر مُتنقّل
هناك فوائد وميزات عدة للهودج تساعد الرّحل والبدو في رحلاتهم، ويعد بمثابة متجر متنقل تُوضع فيه معينات غذائية تكفي لأكثر من ثلاثة أشهر، ونظراً للسير إلى مسافات بعيدة وفي أمكنة متعددة بحثاً عن الماء والكلأ للماشية، يتخير الأبالة أماكن عدة، وقد تكون فترة المسير يوماً أو يومين، ومن ثم تستأنف الرحلة مرة أخرى في حال لم يجدوا المكان الملائم للإقامة فيه.
ويخصص الأبالة موقعاً على جانبي الهودج لوضع المواد الغذائية وأدوات الطبخ والطعام الذي يكفي كل أيام الرحلة، فضلاً عن وضع مكونات السرسر التقليدي المصنوع من الخشب الذي يطلق عليه محلياً “العنقريب” مفككةً إلى أجزاء لتركيبه عند الإقامة تحت ظلال الأشجار.
وتوجد داخل الشبرية أيضاً أدوات عدة تُستخدم لدى تلك المجتمعات البدوية بصورةٍ أساسية مثل الجراب والخمام والعمرة وسعن الماء وبخسة الروب وحلة اللبن، إضافة إلى دقيق الدخن والسكر، وعادةً ما يتحرك الهودج في فترة ما بعد الظهيرة بالعروس الجديدة، وتسمى هذه العادة بـ “السربة” ويتم تقديم اللبن الرائب للعروس بجانب “النسية” التي تصنع من الروب وتشرب كالعصير.
