لقد بنت الإمبريالية استراتيجيتها في محاربة ثورات الفكر الوطني التحرري في المشرق وأفريقيا وآسيا _ ما يُعرف بالعالم الثالث – على أساس مكافحة الفكرة القائلة “إمكانية التنمية المستقلة نسبياً بعيداً عن المعسكر الغربي الإمبريالي” حيث وقعت الكثير من الهزائم لثورات وحروب التحرر الوطني وإن كان البعض منها قد تحرر بالشكل وليس بالمضمون. معظم دول العالم الثالث وقعت تحت سيطرة أنظمة حكم عسكرية أو يمينية متطرفة. بالإضافة إلى أنها عملت على إفراغ المعارضة بجميع أشكالها يسارية أو يمينية من محتواها الديمقراطي حيث أصبحت مثلها مثل الأنظمة الحاكمة والمتسلطة تعمل من أجل الوصول إلى السلطة وفي بعض الأحيان وصلت إلى السلطة ولم تكن ممارساتها تختلف جذرياً عن ممارسات السلطات اليمينية إلا فيما ندر (تجربة محمد مصدق في إيران – عبد الناصر في مصر – عبد الكريم قاسم في العراق ) نموذجاً. الفئات الحاكمة في سعيها لتحقيق الاحتكار الفعال لمصادر القوة والسلطة في المجتمع عمدت إلى القضاء نهائياً على المعارضة وتنظيماتها وأخضعت المؤسسات الاجتماعية لخدمة الدولة وقضت على استقلاليتها ناسفة في الوقت نفسه الأسس المادية لمؤسسات المجتمع المدني الحديث (نقابات مهنية وعمالية وتنظيمات اجتماعية ودينية وإعلامية مستقلة). وهكذا نرى الدولة التسلطية تطرح نفسها بديلاً عن مؤسسات المجتمع المدني مستندة في ذلك إلى الإمكانات المتوفرة في يديها وسيطرتها على كافة الموارد البشرية والاقتصادية, ورغم ذلك دخلت هذه الدول في أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة والسبب في ذلك يعود إلى:
أولا: كان الإنفاق العام في الدولة يميل إلى الزيادة في المعدل أكثر من الزيادة في وسائل التمويل وتوليد الفائض الاجتماعي.
ثانياً: المصالح الخاصة التي تستفيد من سلطة الدولة لأغراضها الضيقة تدفع السياسة المالية والانفاق العام نحو الاستجابة لمصالحها الفئوية الخاصة دون اعتبار لحدود وسائل التمويل وتوليد الفائض الاجتماعي مما يزيد الأزمات تعقيداً واتساعاً.
ثالثاً: إلى جانب تحكم الدولة بتوزيع الحصص والنسب السياسية للأقليات والطوائف وكأنها في سوق الهال (سوق الخضرة ) توزع وتبيع وتشتري.
يمكن اعتبار ميثاق الطائف بين الطوائف اللبنانية نموذجاً حيث تم توزيع الرئاسات الثلاثة على الشكل التالي: رئاسة الجمهورية للموارنة – رئاسة مجلس الوزراء للسنة ورئاسة البرلمان للشيعة.
الدولة التسلطية تسعى وتعمل من أجل أن تصبح البديل عن مؤسسات المجتمع المدني كي تكون الوحيدة التي تلتجأ إليها العوائل والملل والعشائر مستندة إليها خاصة في ظل الإرهاب المتصاعد من جانب الإمبريالية المهيمنة وأدواتها المحلية. بالإضافة إلى ذلك فهي تسيطر على المشروعات الإنتاجية من خلال القطاع العام إلى جانب الإنفاق الحكومي ولو بنسبة معينة في الاقتصاد لدعم الصناعات الثقيلة وهي عملياً تتحكم بالنقل والمواصلات إلى جانب قطاعات النفط والغاز وكذلك الثروة الحيوانية والسمكية إن وجدت, كما أنها تسيطر على قطاع الاتصالات (شبكة الهواتف الأرضية) إلى جانب احتكارها لشبكة الأنترنيت.
إن التوجه الكوني نحو توسيع صلاحيات ودور الدولة وتدخلها في الاقتصاد والمجتمع, يتبعه بالضرورة شمولية نموذج الدولة التسلطية في العالم الثالث, واستناداً إلى مقاييس معينة تتمثل في ما يلي:
ـ نوع النخبة أو الفئة الحاكم.
ـ درجة هيمنة القطاع العام والمتمثل بالدولة على الاقتصاد.
ـ مستوى اندماج الاقتصاد في نظام الاقتصاد العالمي, أو بمعنى آخر, درجة تبعية اقتصاد الدولة للاقتصاد العالمي.
ـ نوعية التحالف القائم بين النظام المحلي والقوى الإمبريالية العالمية في ظل التوازنات الاقليمية المتغيرة.
وهذه الأنواع تتضمن (نظام مدني ضعيف – نظام عسكري بيروقراطي عال – نظام ملكي متوسط).
في ظل هذه الأنظمة ينعدم حتى الهامش الديمقراطي لبناء مؤسسات مجتمع مدني قادرة على تنظيم الجماهير الشعبية وتعبئتها وتدريبها على المطالبة بحقوقها والدفاع عنها, أضف إلى ذلك سيطرة أجهزة الدولة من خلال القطاع العام في سائر مجالات ومفاصل الحياة الاقتصادية والمجتمعية والتحكم بها من خلال مؤسسة القانون والدستور.
يقول انطونيو غرامشي المفكر والفيلسوف الإيطالي:
“ينبغي التميز بين المجتمع المدني كما تصوره هيجل, كما نستخدمه في هذه الأيام (أي بمعنى الهيمنة السياسية والثقافية, لجماعة اجتماعية على المجتمع كله, باعتبارها المضمون الأخلاقي للدولة) من جهة, وبين المجتمع المدني كما يتصوره الكاثوليك, فهو عندهم المجتمع السياسي للدولة, الذي يقابله مجتمع الأسرة ومجتمع الكنيسة”.
من هنا يتبين لنا بأن الدولة التسلطية ليست مجرد أداة للحكم فقط, بل هي جهاز هيمنة خاص على المجتمع المدني.
إن وقوع الثورة السلبية يتضح عندما يكون الهدف من التدخل التشريعي للدولة وعبر تنظيمات الروابط في البنية الاقتصادية للدولة، هو إحداث تعديلات عميقة بهذه البنية للتوصل إلى التأكيد والإصرار على وجود “خطة إنتاجية” وهذا يعني التأكيد على عنصري “التخطيط” و”التعاون” في العملية الإنتاجية، دون المساس بالملكية الفردية أو بملكية الجماعات للربح، أي أن يقتصر التدخل على التنظيم والتحكم في هذه الملكية دون المساس بها.
من هذا الفهم لطبيعة المجتمع المدني في علاقته بالاقتصاد والسوق ـ الذي سيمثل محدداً أساسياً لعمل هيئات المجتمع المدني في واقعنا المعاصر حيث أصبحت منظمات المجتمع المدني تكتسي طابعاً عالمياً يتجاوز الحدود الوطنية لتعويض دور الدولة في هذه البلدان خاصة بلدان العالم الثالث.
إن الحديث عن صيغة المجتمع المدني وفق النموذج الليبرالي وإمكانية تطبيقه وتوفر مقوماته في بلدان الشرق الأوسط والنامية بشكل عام فرضية غير قابلة للتحقيق في ظل أوضاعها الراهنة لأنها تتخطى التركيبة الاجتماعية الاقتصادية التابعة والمشوه في هذه البلدان أو أنها تتعاطى مع المفهوم المجرد للمجتمع المدني في الإطار السياسي الاجتماعي الضيق للنخبة اللبرالية من المثقفين وبعض الأنظمة الحاكمة بما لا يضر بمصالح هذه النخب وحلفائها في الداخل والخارج على حد سواء. ويكفينا للتأكيد على صحة ما تقدم أن الأنظمة التسلطية في العالم الثالث تبدو مكرهة اليوم في ظل سيادة آليات العولمة على الأخذ ببعض أشكال النمط الليبرالي الغربي أو الانفراج السياسي بصورة متفاوتة وجزئية ارتباطاً باحتياجات وضرورات الانفتاح الاقتصادي من ناحية, وبما يخدم المركز الرأسمالي المعولم ووكلائه على المستوى الإقليمي (باكستان – كوريا الجنوبية – تركيا – اسرائيل ….) من جهة أخرى.
إذاً, المجتمع المدني في بلداننا في ظل هذه الظروف الراهنة والأنظمة التسلطية الحاكمة في مناطقنا, من الصعب أن ينمو بشكل طبيعي كون الحاضنة الاجتماعية له غير ناضجة في ظل هذه الأزمات والحروب التي تعيشها المنطقة, والدمار الهائل الذي تخلفه الحرب وتلحقه ببنية المجتمعات.
لقد بنت الإمبريالية استراتيجيتها في محاربة ثورات الفكر الوطني التحرري في المشرق وأفريقيا وآسيا _ ما يُعرف بالعالم الثالث – على أساس مكافحة الفكرة القائلة “إمكانية التنمية المستقلة نسبياً بعيداً عن المعسكر الغربي الإمبريالي” حيث وقعت الكثير من الهزائم لثورات وحروب التحرر الوطني وإن كان البعض منها قد تحرر بالشكل وليس بالمضمون. معظم دول العالم الثالث وقعت تحت سيطرة أنظمة حكم عسكرية أو يمينية متطرفة. بالإضافة إلى أنها عملت على إفراغ المعارضة بجميع أشكالها يسارية أو يمينية من محتواها الديمقراطي حيث أصبحت مثلها مثل الأنظمة الحاكمة والمتسلطة تعمل من أجل الوصول إلى السلطة وفي بعض الأحيان وصلت إلى السلطة ولم تكن ممارساتها تختلف جذرياً عن ممارسات السلطات اليمينية إلا فيما ندر (تجربة محمد مصدق في إيران – عبد الناصر في مصر – عبد الكريم قاسم في العراق ) نموذجاً. الفئات الحاكمة في سعيها لتحقيق الاحتكار الفعال لمصادر القوة والسلطة في المجتمع عمدت إلى القضاء نهائياً على المعارضة وتنظيماتها وأخضعت المؤسسات الاجتماعية لخدمة الدولة وقضت على استقلاليتها ناسفة في الوقت نفسه الأسس المادية لمؤسسات المجتمع المدني الحديث (نقابات مهنية وعمالية وتنظيمات اجتماعية ودينية وإعلامية مستقلة). وهكذا نرى الدولة التسلطية تطرح نفسها بديلاً عن مؤسسات المجتمع المدني مستندة في ذلك إلى الإمكانات المتوفرة في يديها وسيطرتها على كافة الموارد البشرية والاقتصادية, ورغم ذلك دخلت هذه الدول في أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة والسبب في ذلك يعود إلى:
