الخبز الريفي نكهة عريقة تبدع بصنعه النساء

روناهي/ تل كوجر ـ

---

لا يزال الريف يحافظ على موروث صنع الخبز “التنور ـ الصاج” على أيدي الأمهات ليومنا هذا، ليصنعن رغيف خبزٍ ممزوج بين عراقة الماضي، وحاجة الحاضر، فتحضير الخبز أيضاً له تقليده الخاص؛ ليكون بمذاقه الخاص الضيف العزيز لكل وليمة.

تشكل البساطة والألفة الاجتماعية والتعاون، رابطاً قوياً لعموم شعوب المنطقة، ويتجلى ذلك برغيف الخبز الشعبي في أرياف بلدة تل كوجر، الخبز الذي يعد ضرورة يومية، لا يمكن التغاضي عنها، كما يملك رمزية تشارك قرى الأرياف تاريخها وعراقتها، هذا الرغيف، الذي يرمز للحنين إلى الوطن، وأحضان الأمهات، لدى المغترب المفارق لبلاده.

رغيف التنور طعم الأصالة

ولم تستطع المخابز الحديثة، وأرغفة الخبز السياحي، أن تسرق من رغيف التنور رونقه الخاص، وشعبيته الجارفة، فقد حافظ على حضوره المستمر في موائد الفقراء والأغنياء على السواء، فمع شروق شمس الصباحات الريفية في تل كوجر وأطراف البلدة ذاتها، تنتشر رائحة “خبز التنور” اللذيذة، والمقمر على الحطب، لتملأ أرجاء القرى، وما زال مشهد تجمع الأولاد حول أمهم، وهي تخبز على التنور، ينتظرون خروج الرغيف الساخن، حتى توزعه عليهم يتكرر في كل تلك الصباحات.

وعن آلية العمل، وإنتاج الخبز حدثتنا المواطنة مريم المحمود قائلة: “يتطلب الخبز على التنور خبرة ومهارة، سواء في تحضير العجين، أو في تهيئة التنور، وفق درجة حرارة مناسبة، كما أن السرعة أساسية عند الخبز على التنور؛ لأن وضع الرغيف داخل التنور ملتصقا بجداره، وسحبه بعد نضجه يتطلب سرعة كبيرة بمهارة فائقة، لأن درجة الحرارة داخل التنور تكون مرتفعة جداً، والخبز مثل الطبخ، يحتاج لنفس جيد ورغبة، وكثيراً ما يختلف طعم الخبز بين سيدة وأخرى، وسابقاً كانت النساء يتنافسن فيما بينهن في صناعة وجودة رغيف التنور،  وكانت الفتاة التي تتقن الخبز في تلك السنوات مرغوبة جداً للزواج، وحتى اليوم هناك إقبال بالأعمار وبالثقافات وبالطبقات المختلفة على تناوله، وإن الإعداد لخبز التنور، يبدأ في ليلة اليوم السابقة من خلال ما يسمى بـ “تبييت الخبزة حيث تقوم السيدة بنخل الطحين بغية تنظيفه من الشوائب، ثم تقوم بوضع الخميرة، والماء للطحين، وتركه  حتى الصباح”.

رحلة الإنتاج

تتحدث الجدة علياء البالغة من العمر قرابة السبعين عاماً، عن مراحل تحضير خبز التنور، حيث تبدأ العملية منذ ساعات الفجر الأولى بعجن الطحين المتخمر، وذلك باستخدام طشت معدني، بغية تهيئة العجينة للخبز، وكلما عجن العجين أكثر، كان خبزه أسهل، ونتج عنه رغيف أجود: “بعد الانتهاء من تجهيز العجينة، نغطيها بقطعة قماش، ونتركها لمدة نصف ساعة حتى تستريح، وخلال هذه الفترة، يتم إيقاد النار في التنور، باستخدام الحطب، ويبدأ بعدها التحضير لتقريصات العجين، وهي قطع كروية الشكل من العجين كل قطعة يُصنع منها رغيف واحد، وربة المنزل هي التي تتحكم بحجمها بحسب حجم الرغيف، الذي ترغب بتحضيره، وبعد الانتهاء منه تبدأ عملية الخبز، حيث تمدها وترققها بحركة دائرية باليد ثم توضع العجينة على قطعة قماش دائرية محشوة ببعض القطع القماشية بسماكة عشرة سنتمترات، توضع عليها قطعة العجين بعد مدها، لتلصق بأحد أطراف التنور من الداخل، ومهمتها حماية اليد من النار أثناء لصق الرغيف، بعد لصق الرغيف على جدار التنور نتركه حتى ينضج، ثم يسحب باليد أو باستخدام ملقط بساق معدنية، بعد إخراج الخبز من التنور يعرض للهواء حتى  يبرد. وجل أبناء القرى لا يزالون محافظين على هذا التراث، واستمراره، واتباع طريقة التحضير القديمة نفسها من خلال الاعتماد على تنور الطين، بدلاً من تنور الإسمنت، والحطب بدل المازوت، وكل ذلك يكسب “رغيف التنور” طعماً مميزاً ورائحة جذابة”.

وكاد “خبز التنور” ينقرض، لولا أولئك الذين مازالوا يصرون على التمسك به والاستغناء عن خبز الفرن الآلي، وهؤلاء مزيج من الأجيال القديمة والمعاصرة، وهم يحاولون قدر المستطاع الحفاظ على هذا التراث الجميل واللذيذ في آن معاً.

رغيف آخر

لا يقتصر الخبز الريفي فقط على رغيف التنور، إنما يشاركه في المكانة رغيف آخر، وهو رغيف الصاج، الذي لا يقل  أهمية وعراقة عن خبز التنور، كما يحتل رغيف الصاج مكانته الخاصة على المائدة الريفية، تحدثنا المواطنة “فاطمة المحمود” عن آلية صانع الخبز، حيث يحتاج إلى كمية كافية من الطحين تجهز سابقاً على طريقتين بالاتفاق مع صاحب المطحنة، إما أن يقشر ليعطي الخبز اللون الأبيض، أو يترك بقشره لنحصل على الخبز الأسمر.

تضيف فاطمة، أن الخطوة الأولى تبدأ بوضع الطحين بصحن من الألمنيوم عادة، ويخلط بالماء الدافئ، الذي يفضل إذابة الملح فيه قبل خلطه مع الطحين، ولأن النساء هن من يتصدى للمسألة، فلهن خبرة في مزجه بالماء مع كمية مناسبة تجعله يتماسك حين يقطع بعد فترة وجيزة من الراحة، ثم بعدها تشرع ربة المنزل بتجهيز الحطب، والأفضل هو حطب نبات القطن، لكن يستخدم الحطب المتاح في حال عدم توفر عيدان القطن، لتستعر النار تحت الصاج، والصاج هو قطعة من الحديد مقعرة قطرها تقريباً متر، وتفضل النساء استخدام الصاج الواسع؛ لأنه يسمح لها بتوسيع الرغيف كيفما تشاء، وعند جلب قطع العجين إلى غرفة “الخبز” وتسمى في الريف “دار النار” لأنها مزودة بمدفأة لها مدخنة مبنية من اللبن، لتسمح بخروج الدخان من أعلى السقف، بجوار الحائط الشمالي عادة، ولا مانع يحول من إشعال النار ووضع الصاج على الموقد في العراء، إذا لم يكن هناك رياح شديدة تؤثر على استقرارها تحت الصاج.

تقنيات خاصة

تبدأ “الخبّازة” بترقيق قطعة العجين بيدها، وقد تستخدم “المرّق” أو المدلاك وهن أعواد من الخشب الملساء تساعد في تحسين عملية تسوية الرغيف، وإكسابه رقة تساعده على النضوج بسرعة، كما يستخدم في عملية وضع رغيف العجين أو النزع عن ظهر الصاج الأحدب والملتهب، وأحياناً، لا تستخدم النساء سوى قليل من الطحين (اللكوك) يلك به الرغيف، أو ينثر على قطعة الخشب المعروفة محليا بـ “التختة”، حيث تجري عملية ترقيق الرغيف بالعود، أو بالكفين ثم رفعه ليدور بين الذراعين في الهواء قبل وضعه على ظهر الصاج، وبهذه الطريقة يكون أكثر سماكة، وغير متناظر الاستدارة كما هول الحال مع استخدام “المرّق” أو “المرّقق”، وعند النهاية تتوقف “الخبّازة”، وهذا اسم مبالغة لوصف ربة المنزل؛ لأنها تخبز يومياً ثم  تتوقف عن وز النار أي وضع الحطب تحت الصاج خوفا من أن تخبو النار، ثم تجمع المرأة خبزها في صحن آخر، وتغطيه بقطعة القماش التي جاءت بها، وهي غطاء للعجين، ثم تخرج وعيونها غارقة في الدمع من فعل الدخان، كل هذا التعب ولا تزال هذه الأنواع من الخبز هي الأقرب إلى قلب المواطنين، لما لها من طعم خاص كما أنها تدخل في صناعة بعض المأكولات، التي لا يمكن الحصول على مذاقها الأصلي ألا بتواجد رغيف الصاج أو رغيف التنور وأبرزها الثريد.