روناهي/ جل آغا: يبقى إرث الأجداد أمانة في أعناق الابناء؛ فالمحافظة عليّه أمر مهم لما له من جمالية وعراقة تعكس طابعاً حضارياً لأمم عاشت في حقب تاريخية ضاربة في الأصالة والقدم؛ فكلّ شيء كان مختلفاً وبسيطاً؛ يربون جيادهم وجمالهم، وأغنامهم التي يعتمدون عليّها في معاشهم؛ يسكنون بيوت الشعر وبعد يوم شاق من العمل يجلسون يتسامرون؛ لتنسيهم أنغام الربابة أتعابهم.
هذا ما لمسناه عند أهالي قرية كرهوك الخوالدة في ريف ناحية جل آغا الذين يحاولون إحياء التراث في مزرعة تضم، مربي ومدربي خيول؛ حصدوا جوائز ذهبية مع جيادهم، وبيت شعر، ودلال للقهوة المُرّة، وحفاوة وترحيب؛ بأيّ ضيف وأنّ كان عابر سبيل وعادات وتقاليد تتسم بالعراقة يجدها الزائر لهذه المنطقة.
برنامج “ديرتنا” التراثي في قرية كرهوك
فما كان من صحيفتنا روناهي إلى أنّ توجهت لهذا المكان الذي تفوح منه رائحة التاريخ وحكايات الأجداد، وإرثهم الذي يستحضرونه ويحاولون إحيائه.
وما أن دخلنا لبيت الشعر الذي جمع عدد من وجهاء القرية حتى شربنا قهوتهم المُرّة التي كانت دليل ترحيب حسب تعبير صاحب مزرعة تربية الخيول “إسماعيل محمد الصالح” ابن الستين عاماً؛ والذي جعل من هذا المكان منطلقاً لتصوير برنامج “ديرتنا” الذي يعرض على قناة “روج آفا” متحدثاً عن ضرورة تشجيع مثل هذه البرامج الثقافية والتي تعدّ ترفيهية تعريفية بالتراث؛ حيث تعود بالذاكرة لزمن جميل بأنغامها العذبة وجوها الجميل.
إحياء التراث انتصار على الغزو الثقافي
وعن اختياره لمهنة تربية الخيول يقول الصالح: “الخيل معقود بنواصيها الخير وهي بركة في البيوت ووفية لصاحبها”.
وعن فكرة هذا المكان واستقطاب الناس إليّه؛ فقد أشاد بالدور الكبير الذي يلعبه المركز الثقافي للفن في تل كوجر، وما يقوم به من تنظيم لفعاليات تشجع على استمرار نهج الأجداد الذي تروق لهم مثل هذه الفعاليات؛ حيث أكد بأنّ كبار السن يشاركون في هذه الأعمال من باب حبّ وغيرة على أرث عريق في ظل ظروف صعبة تمر بها المنطقة في شمال وشرق سوريا من غزو ثقافي لكلّ معالم الحضارة ومحاولة طمس تاريخ المنطقة وسلبها ثوبها التاريخي الذي يشكله تراث كلّ المكونات؛ “إحياء التراث انتصار للأمم ودليل تمسك بتاريخنا وهويتنا كشعوب تعيش في هذه المنطقة”، بهذه الكلمات لخص مربي الجياد إسماعيل محمد الصالح فكرته.
شاب كردي يدعم الحفاظ على التراث العربي
أما الإداري في المركز الثقافي بتل كوجر “مظلوم أرارات” ابن الثمانية والعشرون عاماً؛ الشاب الكردي الذي يحمل في عمله وفنه الذي يقدمه رسالة انسانية؛ ماهي إلاّ صورة وانعكاس للترابط الأخوي، وتلاحم الشعوب؛ حيث لبس الزي العربي القديم والذي بدا سعيداً به ليقول: “نحن أهل منطقة واحدة ربما نختلف في بعض العادات والتقاليد؛ لكنّنا نملك إرثاً واحداً بكافة مكوناتنا”.
وعن انشغاله في تنظيم مثل هذه الفعاليات تحدث إنّه يعتبر هذا الأمر واجب على كلّ شاب يملك حساً بالواجب، ويريد لنهج أجداده أنّ يستمر؛ مؤكدا بأنّه لا يوجد أجمل من المحافظة على نهج الأجداد والسير على خطاهم فهم البركة والعز، ويجب أن يكون دور الشباب إيجابي في تحمل مسؤولياتهم تجاه إرث أجدادهم حسب تعبيره.
الجانب التنظيمي للفعاليات
أما عن الجانب التنظيمي للفعاليات فقد أوضح بأنّ برنامج “ديرتنا” يتم بالتعاون بين قناة روج آفا والمركز الثقافي بتل كوجر وينسق معهم، ويقوم باستقطاب ودعوة عازفي الربابة والناي والمغنين الذين يملكون صوتاً شجياً، وبأنّهم يخصصون يوماً لكلّ قرية من قرى ريفي تل كوجر وجل آغا؛ لإظهار ما بها من مواهب ورعايتها، والاستفادة منّها في تنمية مثل هذه النشاطات التي تؤكد وحدة الصف والتناغم والانسجام التاريخي، والثقافي بين مكونات أبناء المنطقة؛ مؤكد احترامه الشديد لتراث أبناء المنطقة.
معوقات تربية الخيول
تعتبر الخيول من أبرز ما يتميز به تراث المنطقة لكن هناك معوقات تعترض تربية الخيول، وهذا ما حدثنا عنه مربي الخيل المواطن “ظاهر محمد الصالح” ذو السبعين ربيعاً والذي قال بأنّ: “هناك قلة اهتمام بالثروة الحيوانية عامة والخيل خاصة من حيث اللقاحات والبيطرة وتقديم الأدوية والطبابة”.
متابعا كلامه عن غلاء مثل هذه الأنعام وبأنّ مرض أحدها يشكل عبئاً اقتصادياً على مربيها لأنّ خسارته ستكون فادحة.
خيولهم تحصد جوائز في مضمار السباق
وأكد الصالح بأنّ تربيته للخيول تعود لطفولته؛ فهم كعائلة من عاشقي الجياد وحصلوا على جوائز محلية وعربية؛ فقد شاركوا في بلدان كثيرة وتركوا بصمة في ميادين السباق؛ حيث أثارت خيولهم وتربيتها إعجاب الكثيرين؛ نظراً لرشاقتها وضمور بطنها واعتيادها على المناخ الحار الذي جعلها معتادة على أقسى الظروف.
وأكد الصالح بأنّه يحب مهنته ويتمنى لو يستطيع ركوب الخيل من جديد متحسراً أيام الشباب. أما عن تلك الجلسات التي يعقدونها فقال ظاهر محمد الصالح: “ننسى همومنا ونرمي بها جانباً مع أنغام الربابة، والأصوات الشجية التي ترافقها”.
فهم يغنون للفرح وللحزن وللفراق بطريقة تلامس شغاف القلب.
للشعر الشعبي نكهته التراثية
كما وللشعر حضوره في مثل هذه الجلسات؛ فالشاعر أحمد الظاهر كان أحد الضيوف في تصوير هذه الحلقة، وتكلم عن أنواع الشعر وأثره في النفس وعن الموضوعات التي يتطرق لها بطريقة شعبية بسيطة تصل لأذن المستمع دون استئذان من غزل وحب ووصف وهجر للديار؛ مؤكداً بأنّ للشعر الشعبي نكهة تراثية؛ تجعله مميزاً لا ينقرض مهما طال الزمن.
وعن دور مثل تلك النشاطات والبرامج قال الظاهر: “التراث حضارة شعوب مضت ويجب أن تتعاقب الأجيال في مسيرة الحفاظ عليه، فتراثنا هويتنا وجواز سفر يميز كل مكون من مكونات المنطقة”.
وأكد على دور الشباب الذي يقع على عاتقهم حمل هذه الرسالة والسير على نهجها في متابعة هذه النشاطات؛ مستنكراً فداحة أنّ يجهل الشباب تاريخ وتراث وثقافة أهلهم وأجدادهم.
وقد أشار بأنّ الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي سلبت عقول الشباب وجعلتهم بمنأى ومعزل عن تاريخهم؛ الذي تمنى ألاّ يدفن ويتلاشى بيد أبنائه.
تركنا المكان مودعين بمثل ما استقبلنا به من حفاوة وطيب ضيافة، لنترك صهوات خيل تنشد عز ما مضى ورائحة قهوة وأصوات عذبة تحتضنها تلك الخيمة التي باتت رمزاً لتراث سيستمر على يد الغيارى من أبناء هذا الوطن.
تقرير/ غزال العمر
