سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

البونتيك… مئة عام على الوجع والموت

إعداد/ عبدالرحمن محمد

البونتيك من الشعوب العريقة اليونانية التي أقامت على طول الشريط الجبلي الواقع على السواحل الشرقية للبحر الأسود في تركيا الحالية، واسمهم مشتق من الكلمة الأغريقية “بونتوس” الاسم الجغرافي لتلك الشعوب اليونانية على سواحل البحر الأسود. والذي يعود إلى أكثر من ثمانية قرون قبل الميلاد، وكونوا النواة الاستيطانية الأولى بعد قدومهم من “ميليتوس”.
طوَّعَ البونتيك البحر الأسود الجامح؛ صعب المراس ،وطوروا علاقاتهم وتواصلهم بالجوار، وتطورت مدائنهم في العصر البيزنطي، وقامت إمبراطورية “ترابزون” في بونتوس على يد “الكسيوس الأول” حفيد الإمبراطور “كومنينوس” بعد سقوط القسطنطينية عام1204م. وبعد سقوط القسطنطينية بيد العثمانيين عام1453م. وقاومت ثمانية عشر عاماً قبل سقوطها بشكل كامل، وبقيت مقراً ومنطلقاً للمقاومة ضد المحتل العثماني.
تقدم وانفتاح بدايات القرن التاسع عشر:
استفاد البونتيك كما العديد من الشعوب والأقليات الأخرى كالأرمن والآشوريين من بعض العلاقات والأمتيازات الأجنبية في السلطنة العثمانية وبخاصة الأنكليزية والفرنسية، وأثر ذلك الازدهار على نمو أعداد اليونان البونتيك في مناطقهم الجبلية، ففي العام 1865 بلغ عددهم نحو 265 ألف شخص، وفي العام 1880 بلغوا 330 ألف شخص. وفي بداية القرن العشرين، وصل عددهم إلى نحو 700 ألف. ترافق ذلك مع تقدم في وضعهم الثقافي والاقتصادي.
 الاتحاد والترقي وأتاتورك وسياسة الإبادة:
التحول الأخطر في حياة البونتيك والمسيحيين بشكل عام كان بعد الانقلاب على السلطان عبدالحميد الثاني عام 1908م. وتولي جمعية الاتحاد والترقي زمام الحكم، والتي انتهجت خطاً قوموياً شوفينياً رأت فيه تَفَوقَ وسموَّ العِرق التركي على باقي الأعراق والأقوام، وسَنت القوانين التي تبيح لها إبادة وقتل كل من يرفض الانضواء تحت رايتها، والانضمام إلى قواتها العسكرية التي كانت تحتضر، وكانت “السلطنة العجوز” تتهالك. وشرَّع الاتحاد والترقي إبادة المسيحيين في الأناضول مع رفضهم الانضمام للقوات العثمانية في بداية الحرب العالمية الأولى 1914م.
كانت مجازر الأرمن عام 1915 التي خَلَّفت قرابة مليون ونصف من الضحايا، من أكبر مجازر تركيا ولم تكن آخرها، وتبعتها مجازر البونتيك في موطنهم الأصلي “بونتوس”.
أجبرت السلطات العثمانية شباب البونتيك على العمل في السخرة والقيام بالأعمال الشاقة في فتح الطرق والمناجم والمَقالع، ومن لم ينظم للجيش ويُقتل؛ كان مصيره الجوع والمرض الذي فتك بالآلاف، أو تهجيرهم القسري إلى مدن الداخل خوفاً من تعاونهم مع الروس.
كانت المقاومة ردة فعل لا بد منها للرد على تركيا، وكان إعلان “كريسانثوس” من ترابزون قيام جمهورية “بونتوس” التي أعلنت في عام 1917م، ودامت لغاية عام 1922م.
استمر الطغيان التركي، وسياسة القتل والتدمير، ولم يكن مصطفى كمال أتاتورك بأفضل ولا أرحم من الاتحاديين، بل إنه قام بحرب شعواء على البونتيك وبخاصة في الحملة الثانية التي بدأت من “ساسون” في 19 أيار 1919م.
في الفترة ما بين 1919م و1922م، كانت آلة الحرب التركية قد حصدت أرواح ما يفوق 353 ألفاً من البونتيك على يد الجيش التركي المهزوم في الخارج بقيادة أتاتورك، وأشارت بعض الاحصاءات إلى أرقام موثقة كانت كالتالي:
“134078قتلوا في أماسيا وسامسون وجيرسون، 64582 في توقات، 17479 في ماكا، 21448 في شيبينكارا هيسار”
بينما كان من قرارات معاهدة لوزان الموقعة بين تركيا والحلفاء في العام 1923م، إتمام عمليات التبادل السكاني بين تركيا واليونان لإنهاء المشاحنات المميتة بين الفريقين. وقد وصل عدد البونتيك الذين تم نقلهم أثناء عملية التبادل تلك إلى نحو 400 ألف شخص، مات منهم نحو 50 ألفا في المدة الزمنية المحيطة بعملية الانتقال.
رحلة معاناة لا تنتهي:
لم تنتهِ المآسي التي كان البونتيك يعاني منها بالتهجير، بل إنها لاحقتهم في اليونان على مدى عقود، فقد كانت المشاحنات تستمر في موطنهم الجديد مع الوافدين من “السلاف”، وفي العقدين الخامس والسادس من القرن الماضي ضرب القحط والفقر بما تبقى منهم ليهاجروا صوب المدن الكبرى والعاصمة، فيما استوطنت مجموعات من البونتيك القادمين من الاتحاد السوفييتي المتفكك عام 1990م، في ذات المناطق الشمالية على الحدود مع مقدونيا، وكانت الهجرة إلى أصقاع الأرض من نصيب آخرين.
يعتبر البونتيك أن العقيدة الأرثوذكسية والثقافة الهيللينية هي الجامعة بينهم، في كل مكان وزمان بغض النظر عن الجغرافيا، وفي “دير باناجيا صوميلا” تتوجه أرواحهم وذكرياتهم ويقيمون شعائرهم، وهي في منطقة “جبل ميلا” بترابزون في تركيا حالياً، وفي هذا الدير تؤدي مجموعات منهم طقوس عبادة ترتقي إلى مراتب الحج والتقديس.
وما زال البونتيك يحتفظون بعلمهم كرمز للحفاظ على قدسية الوطن الأم من خلال رأس النسر “راميا” المتطلع إلى “القسطنطينية”، وقد اعتبرت اليونان منذ عام 1994م، يوم 19أيار يوم استذكار لإبادة البونتيك على يد الأتراك.
 المجزرة بين الإِنكار والإِصرار:
قرابة المئة عام مرت على المجازر، وما زالت تركيا تَتَنكر لكل ما فعلته وارتكبته من مجازر وتغيير ديمغرافي، وانتهاكات وصلت إلى مرتبة الإبادة وتجاوزتها، وكما تنكرت وما زالت تتنكر لمجازر السيفو فما زال النكران سلاحها، غير إن الكثير من المنظمات والدول باتت تدين تلك الحروب والمجازر وتصنفها بالإبادة الجماعية، رغم التهديد والوعيد التركي لها، وعوضاً عن الاعتذار للبشرية عن مجازرها ما زالت تركيا الحفيدة العثمانية الطورانية ترتكب المزيد من المجازر والإبادات التي تمارس اليوم إحداها في مناطق شمال وشرق سوريا مما يُحَتم على المجتمع الدولي عدم الاكتفاء بالإدانة بل الوقوف بحزم في وجه تركيا للحد منها؛ لا بل ومحاسبتها.