احتلال جنة الأرض وتعذيب ملائكتها.. لن يثنيهم عن المقاومة

تقرير/ باهوز أحمد –

تعرَّض مئات المدنيين للتعذيب والضرب والإهانة، وانتُهكت حقوقُهم وكرامتهم، لدرجةٍ بات التعذيب الجسديّ فيها أهون من التعذيب النفسيّ، بالإضافة إلى حال الرعب التي يعيشها أبناء مقاطعة عفرين المحتلة، بتوجيهات مباشرة من جهاز الاستخبارات التركي، حيث تقوم الفصائل المرتزقة بمختلف مسمياتها بعمليات الخطف اليوميّة للمدنيين العائدين إلى عفرين، وفي الكثير من الأحيان يطلبون فديةً ماليّة مقابل إطلاق سراحهم.

أفادت مصادر خاصة عن وجود أكثر من 700 شخص بينهم نساء وكهول وشباب في أحد السجون بريف إعزاز، والذي تستخدمه الدولة التركيّة كمركزٍ للاعتقال والتعذيب بعد فترة تحقيقاتٍ يمر بها المختطفون في تركيا وعفرين. رحلة الاختطاف التي يتعرَّض لها المدنيون في عفرين تمرّ عبر مراحل عدة، يتعرَّض فيها الشخص لموجة تعذيب متفاوت القسوة وإهانات كبيرة بحسب التهمة المُلفَّقة له.
إليكم قصة الشاب العفريني (عكيد) ذي الثلاثين ربيعاً وهو اللقب الذي اختاره لنفسه، خوفاً من ذكر اسمه الصريح الذي قد يعرضه للاختطاف مجدداً. كانت حياة عكيد الجامعيّ مستقرة، بعد قضائه فترة شبابه في قريته الريفية، مارس مهنة التعليم إلى جانب مساعدته عائلته في الزراعة والاعتناء بأشجار الفاكهة المتنوعة التي جعلت من منطقة عفرين جنة من جنان الله على الأرض، واليوم أضحت جنة الزيتون محتلة من قبل «منافقي السلطان العثماني».
يروي عكيد قصته بعد تعرض مقاطعة عفرين للعدوان التركي، واضطراره للخروج والتوجه إلى ناحية شيراوا، والمكوث هناك أيام عدة، حتى باتت المقاطعة تحت الاحتلال التركي بعد مقاومة دامت شهرين من قبل الأهالي ومقاتلي وحدات حماية الشعب وقوات سورية الديمقراطية، ليعود عكيد برفقة والديه المسنين وزوجه وأخوته إلى القرية، ويقول عكيد: «دخلنا عبر قرية كيمار إلى ناحية شيراوا، وهناك رحب المرتزقة بنا، ولوهلة ظننت أن الأمور ستتحسن نحو الأفضل ولا خوف من العودة».
بعد قضاء العائلة عدة أيام فقط في منزلهم الذي تعرض لسرقة بعض أثاثه، داهمت مجموعة من مرتزقة أحرار الشام المنزل واقتادوا عكيد وشقيقه الأكبر إلى أحد المعتقلات في عفرين، وهناك تعرَّض الشقيقان للتعذيب النفسي، ودامت فترة اعتقالهما أسبوعاً كاملاً.

العودة تعني التعرُّض للاعتقال والتعذيب

ظن عكيد أن قصة الترهيب التي يعانيها أهالي عفرين قد تنتهي بهذه الطريقة، لكن لدى عودته إلى المنزل والنظر إلى عين والده المقعد الذي كان ينتظر عودته بشوق، جعل الخوف يتسلل إلى قلبه، وأوجز عكيد ما شاهده خلال أسبوع الاعتقال في عفرين قائلاً: «كان الأسبوع الأقسى في عمري، حاولوا إلصاق عدة تهم بنا، وبالنهاية لم يبقَ لديهم شيءٌ سوى أنني أديت خدمة واجب الدفاع الذاتي في مقاطعة عفرين، فالواجب عند المرتزقة بات تهمةً يعتقل بها الشباب ويقتلون بسببها أحياناً».
لم يمض أسبوع واحد على عودة عكيد وشقيقه إلى القرية، حتى عاود المرتزقة اختطافهما مجدداً في بداية شهر نيسان المنصرم، لكن رحلة الاختطاف هذه المرة كانت مختلفة وأطول.
استطرد عكيد: «بعد إخراجنا من القرية، قاموا بعصب أعيننا، واقتادونا إلى مكان الاعتقال في عفرين، هناك لاحظنا أن السجن عبارة عن مدرسة في المدينة، حقق عدد من المرتزقة معنا، وبالطبع كانت الإهانات والضرب أول ما تعرضنا له، والتهم هي ذاتها، أنت عضو في وحدات حماية الشعب، حملت السلاح أثناء الهجوم على عفرين، قتلت الجيش الحر، أنت إرهابي، لاحظنا وجود بعض الأشخاص من ضمن المرتزقة يشبهون في أشكالهم ولباسهم مرتزقة النصرة وداعش، إذ يلبسون قمصاناً طويلة وسراويل فضفاضة، إضافة للحاهم الطويلة».
في سجن عفرين الذي مكث فيه عكيد وشقيقه، مع العشرات من أبناء عفرين، تعرفوا على بعض المختطفين الآخرين الذين تم اختطافهم من قرى مختلفة من أرياف عفرين والتهم ذاتها وُجِّهت للجميع، وتعرَّض المختطفون هناك للتعذيب الجسدي الذي لا يستثني مسناً أو شاباً.

ضباط أتراك يشرفون على التحقيق

بعد الأسبوع الأول من اختطافهم، تم نقلهم مجدداً إلى مدينة إعزاز، لكن غيَّرت العربات وجهتها وتم عصب أعين المخطوفين مجدداً، ليجد عكيد ومنْ معه أنفسهم في أحد السجون التركية ضمن الأراضي التركية، حيث لم يعلموا في أي منطقةٍ هم بالضبط، هناك قام بعض الضباط الأتراك بالتحقيق معهم والتقاط الصور لهم وأخذ البصمات.
أكَّد عكيد: «في السجون التركية؛ تعرضت للتعذيب الجسدي أيضاً، والتهم التي حاولوا إلصاقها بنا هي الانتماء لحزب العمال الكردستاني، وفي الواقع كنت خائفاً، لأن الجنود الأتراك انهالوا علينا بالضرب فور وصولنا إلى السجن، وظننا أننا لن نخرج أبداً منه. بعد أيام من التحقيق المستمر، والتعذيب الجسدي وبطرق مختلفة، تم نقل المختطفين إلى سجنٍ آخر ضمن الأراضي السورية، يشرف عليه مرتزقة الاحتلال التركي من أحرار الشام وكتيبة السلطان مراد التابعة للاستخبارات التركية، وهذا السجن يقع في إحدى القرى الواقعة شرقي مدينة إعزاز».
هناك تعرَّف عكيد على عدد كبير من أبناء قريته والقرى المجاورة الذين تم اختطافهم في فترات متقاربة، كما تعرَّف على قصص بعض المختطفين الذين تعرَّضوا للتعذيب بشكلٍ وحشي.
يقول : «في سجن المرتزقة هذا، والذي تُشرف عليه الاستخبارات التركية، وعرفت ذلك نتيجة وجود عدد من الأتراك هناك أثناء التحقيق والتعذيب، في تلك الفترة التي مكثت فيها، كان عدد المختطفين يتجاوز الـ700 شخص، من بينهم نساء ورجال ومسنين، أحد مسني قريتنا كان موجوداً هناك وقد تعرَّض لتعذيب شديد، تمثَّل بالضرب وكسر أصابع اليدين، حتى بات غير قادر على المشي لأيام».
ويروي عكيد قصصاً وفظائع متعددة عاناها مختطفو ذلك السجن الذي بات شاهداً على انتهاكات الدولة التركية لحقوق الإنسان، لدرجة تجعلنا نُشبِّه هذا السجن بمعتقلات النازيَّة وسجن غوانتناموا، ويقول عكيد: «إن أشكال التعذيب التي عاناها المختطفون هنا، تنوعت بين الضرب المبرِّح لجميع أجزاء الجسم، والصعق الكهربائي، وتعليق الشباب من أقدامهم إلى السقف وممارسة التعذيب النفسي والجسدي».
ويُوثِّق عكيد حال أحد الرجال الذي فقد وعيه تماماً بعد إسقاط أسطوانة الغاز التي تزن أكثر من 20 كغ على رأسه، وهذا يشكل أحد أشكال التعذيب الوحشية التي ينتهجها مرتزقة الاحتلال التركي، إضافة لتوثيق حالات لتكسير الأضلاع والأطراف نتيجة التعذيب، كما فقد شخصان حياتهما تحت التعذيب بحسب ما تناقله المختطفون في المعتقل.
اليوم الشاب الجامعي الذي قضى حياته بحثاً عن العلم، يعود إلى قريته وهو مثقل بالجراح. لكنه؛ عاد للاعتناء بأشجار الأجاص والتفاح، لعلها تنسيه ما عاناه في مدينة كانت تنعم بالأمان، وباتت اليوم محتلة، ويبحث الشاب الذي ما زال لا يصدق كيف تغيَّر الحال بقريته ومدينته عن طريقٍ للهروب من الواقع المرير الذي يفرضه الاحتلال التركي، والمقاومة لهمجيته وممارساته.