في كل ليلة تغلق أليف حسين (51 عاماً) باب منزلها بإحكام، ببلدة تل رفعت بريف حلب الشمالي، وذلك خشية خروج إحدى بناتها المصابات بصرع الأطفال، خوف أن تُصاب إحداهنّ بأذى.
حيث ظهرت أعراض الصرع منذ العام الأول لدى كل من الشقيقات الثلاث هيفاء (15 عاماً)، وسلوى (13 عاماً)، وعريفة (12 عاماً).
تهجّرت العائلة قبل أكثر من ثلاثة أعوام ونصف من منطقة عفرين، إبّان غزو تركيا، والمرتزقة التابعة لها لعفرين. فتسبب الاحتلال التركي الهمجي هناك عام 2018، بتهجير نحو 300 ألف شخص من منطقة عفرين، لتضمَّهم مخيمات العودة، وعفرين، وبرخدان، وسردم، والشهباء، بينما توزع آخرون على 42 قرية وبلدة بريف حلب الشمالي.
وبحسب إحصائية سابقة لهيئة الشؤون الاجتماعية والعمل، لإقليم عفرين (تعمل حالياً بريف حلب الشمالي)، فإن 2000 عائلة مهجرة من عفرين، تتوزع في المخيمات الخمسة، ويسكن حوالي 140 ألف شخص في القرى والبلدات.
ففضلت عائلات أخرى العيش في مدن وبلدات سورية أخرى، ولا سيما التي تديرها الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، بينما هاجر آخرون خارج البلاد.
الأمُّ المكافحة
وتعيش هيفاء وشقيقتاها الأصغر سناً في منزل متهالك، ببلدة تل رفعت، يخلو من معظم الخدمات، والأثاث الضروري لحياة عائلة تضم ثلاثة من ذوي الاحتياجات الخاصة.
فتبدو حياة الأم المصابة بداء السكري، أشبه بمعركة متعددة الجبهات، إذ تسارع لتساعد هذه الطفلة، أو تلك وسط حياة التهجير، فلا تتمكن فيها من تلبية غالبية احتياجات أسرتها.
عندما تتحدث عن المرض “البلاء” كما تصفه، تتذكر ابنها، الذي توفي بالمرض ذاته.
والعام الماضي، تعرض جيكر ابنها (23 عاماً) لنوبة قوية، أفقدته الوعي والتنفس، فتوفي إثرها.
ومنذ وفاته، ازداد خوف أليف على بناتها أيضاً، كلما تعرضت إحداهن لنوبة جديدة، إذ أصبح احتمال الوفاة المبكرة “هاجساً” يراودها.
تقول: إن نوبات الصرع تأتي بشكل مفاجئ، وفي فترات متقاربة، ومتكررة، تبدأ بالارتعاش، ومن ثم فقدان السيطرة على أنفسهم، فيسقطون أرضاً.
احتياجات خاصة
وتسبّبت النوبات فقدان الشقيقات لأسنانهن، التي تكسرت أثناء سقوطهن على الأرض، وعلى وجوههنّ البريئة أثار كدمات لسقوطهنّ على الأرض.
والحال هذه، تحتاج البنات رعاية تامة، من والدتهنّ، التي لم يُثنِ التعب عزيمتها حتى الآن، إذا لا يُعتمد عليهنّ لا في طعام، ولا في نظافة شخصية، ولا أي شأن آخر، “حتى التبول يكون لا إرادياً”.
انتقادات قاسية
تتعرّض الأم فوق ألمها وجهدها لانتقادات قاسية، لعلاج البنات في مدينة حلب: “لكن المسألة ليست سهلة فيما يتعلق بنا كعائلة، وليس باستطاعتنا دفع تكاليف السفر والعلاج، لأنها تتطلب الكثير من المال، ولا نتلقى المساعدة من أحد، أدعو الله فقط أن يساعدنا”.
والمعيل الوحيد للعائلة هو الأب، الذي يعمل في الحقول الزراعية، لسد احتياجات أطفاله، وسط مشكلات التهجير والمرض والفقر.
وقبل تهجيرهم قسراً، عرض الأب ابنه وشقيقاته الثلاث على أطباء أخصائيين في حلب: “لكن الطبيب قطع أمل العلاج”، حسب ما تروي الأم.
تضيف أنها اصطحبت أطفالها حتى إلى عند شيوخ وعرّافين: “كان ذلك كله دون جدوى، فتركت متابعة الأمر”.
والآن في تل رفعت، التي تفتقد لمراكز خاصة بمرض الصرع، لا تتناول الفتيات أي نوع من الدواء، بينما تكتفي العائلة عندما تشتد النوبة، وتطول بإسعافهنّ للنقطة الطبية.
ولا تتوفر إحصاءات دقيقة للمصابين بالصرع بين مهجري عفرين، لدى اللجنة الصحية بريف حلب الشمالي، غير أنها تشتكي من شح المساعدات الطبية، في رعاية كافة المرضى، “أكثرهم مصابون بالليشمانيا وكوفيد 19 بالإضافة لأمراض مزمنة”.
مخاطر واحتياجات
ويعجز فرع عفرين لمنظمة الهلال الأحمر الكردي، عن تأمين أدوية وعلاجات لحوالي 2500 مريض، يعانون من الأمراض المزمنة، حسب الرئيس المشترك للمنظمة حسن نبو.
وفي تصريح سابق لوكالة نورث برس، قال “نبو” إن قلة الدعم المقدم للمنظمة، والحصار الحكومي، وعدم تقديم المنظمات الدولية الطبية المساعدات، يزيد من معاناة المرضى، ويفاقم وضعهم الصحي.
وتخاطب الفتيات والدتهن بالإيماء والإشارة، لعدم قدرتهنّ على الكلام، وخاصة حين يطلبنَ الطعام أو الشاي أو ارتداء ملابس، يفرحن حين تكون جديدة مغلفة أو مرتبة.
وبسبب كثرة النوبات، لا تتمكن عريفة وسلوى الخروج من المنزل، لكن شقيقتهما هيفاء تستطيع السير.
تقول الأم: إنها لا تستطيع ترك باب الدار مفتوحاً: “تخرج هيفا، ولا تعرف إلى أين تذهب، وقبل فترة غفلت عنها، ولم تعد حتى المساء حين أحضرها شخصان من السكان”.
وتضيف: “لا أستطيع تركهن للحظة واحدة، يفتحن المدفأة، وهي مشتعلة، يلعبن بالمازوت أو الغاز”.
وتأمل أليف أن تتمكن من تلبية احتياجات بناتها، وأن تراهن يوماً ما بعافية، إن شاء الله تعالى.