سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

أميرات جبل العرب ينتفضن ضد الظلم والطغيان

هيفيدار خالد

 

منذ أيام، تشهد مدن وبلدات في الداخل السوري احتجاجات شعبية واسعة ضد النظام السوري، والحكم المركزي الذي يحكم البلاد منذ أكثر من خمسين عاماً، رفع المحتجون خلالها لافتات كُتب عليها عبارات تندد بسياسات حزب البعث القمعية بحق كافة أطياف الشعب السوري، بالإضافة إلى شعارات تدعو لرحيل بشار الأسد وكافة رموزه بالسلطة، وسط مناشدات للجميع للمشاركة في الإضرابات وتوسيع رقعتها في كافة المدن، والمطالبة باللامركزية وإنهاء حقبة الحكم المركزي في سوريا، الذي دمر البلاد وحطم آمال الشباب والشابات اللواتي يعانين حتى اللحظة، من الإقصاء من قبل مراكز صنع القرار، ويواجهن صعوبات جمّة في الحياة نتيجة سياسات حزب البعث الممنهجة ضدهن.

النساء، ولا سيما في الجنوب السوري، يسعين جاهداتٍ للتعبير عن غضبهنّ وسخطهنّ من سياسات السلطات الحاكمة، عبر المشاركة الواسعة في الاحتجاجات وقيادتها، حيث شهدت مدينة السويداء حضوراً نسائياً قوياً فعالاً وبارزاً، عبّرن فيه عن آلامهنّ وضرورة الوقوف في وجه الاضطهاد والطغيان، الذي يمارس ضدهنّ في الحياة العامة، وإيجاد الحلول للأزمات التي تمر فيها البلاد، مرددات شعارات وهتافات تطالب بإنهاء السلطة التي تغتصب إرادة النساء وتستهدف نضالهنّ وكيانهنّ، عبر شتى الطرق والأساليب الإقصائية، التي ترى في المرأة تابعاً للرجل وعنصراً من الدرجة الثانية دائماً وأبداً.

مع بدء الأزمة السورية وتلاحق الأزمات، تفاقمت معاناة الشعب السوري أكثر فأكثر وسط تعثّر أي حل يمكن أن ينتشل البلاد من متاهات ودهاليز الفوضى، التي تركت أثراً بالغاً على جميع مفاصل الحياة، وخاصة على النساء فهنّ الأكثر تضرّراً عموماً. ففي عام 2021 احتلت سوريا المركز الثاني في ذيل مؤشر السلام والأمن للمرأة (WPS) الصادر عن معهد جورجتاون للمرأة والسلام والأمن، ومركز بريو للجندر والسلام والأمن، في الأمم المتحدة. وحسب المؤشر، فإن سوريا هي الأسوأ عالمياً، فيما يتعلق بالعنف المنظم، والأسوأ إقليمياً، فيما يتعلق بسلامة المجتمع.

الحرب التي عصفت بالبلاد منذ أكثر من عقدٍ من الزمن أفرزت ظروفاً قاسية على النساء خاصة، حيث أن ممارسات العنف الممنهج ضد المرأة ازدادت بشكلٍ ملحوظ. الأمر الذي خلّف آلاف الضحايا من النساء وزاد من معدلات زواج القاصرات أكثر في البلاد، وذلك حسب تصريحاتٍ رسميةٍ حكومية ومنظماتٍ حقوقية.

لا يخفى على عاقلٍ أن كل ما تعرضت له المرأة من انتهاكاتٍ وممارساتٍ لا إنسانية هو نتيجة بعض العادات والتقاليد البالية السائدة في المجتمع، ولكن هذا لا يخرج القانون السوري المعتمد في البلاد من دائرة اللوم والمساءلة؛ فهو المسؤول الأول والرئيس عن تفاقم وتدهور أحوال النساء عموماً، إذ إنه لا يحمي النساء من العنف الممارس ضدهنّ في المجتمع، وهو ما جعل المرأة وحيدةً في معركتها ضد الذهنية الذكورية، في معظم الأوقات في ظل قوانين جائرةٍ غير عادلة، بدءاً من حق المرأة في الميراث، إلى ما يسمى بجرائم الشرف، وصولاً إلى الأعراف والتقاليد المتعلقة بالزواج؛ من حيث فكرة “المقدم والمؤخر” التي جعلت المرأة بمثابة السلعة التي تباع وتشترى. إضافة إلى أن القوانين الموجودة ليست رادعة لمرتكبي جرائم التحرش والاغتصاب.

ومع ازدياد ظاهرة العنف في البلاد، ورغم التنديدات الدولية، لا يزال القانون السوري حتى الآن يفتقد للمواد الخاصّة بالعنف الأسري. دون وجود آليّة تضمن حق المرأة دون تعريضها للتّهديد من قبل الجهة المعنّفة، لا سيّما أن الكثيرات يصمتن عن العنف، خوفاً من خسارة أطفالهنّ أو لعدم وجود مأوى لهنّ أو تأمين مادي. وأن عقوبة التحرش اللّفظي في القانون السوري، لا تحمي حقوق النساء بهذا الخصوص، حيث نصّت المادة 506 من قانون العقوبات، على حبس المتحرش من يوم إلى ثلاثة أيام أو تغريمه من 500 إلى 2000 ليرة سورية فقط، في حال توجّه بكلام منافٍ للحياء في الشارع لامرأة.

وما شجع المجرمين وضعيفي النفوس على ارتكاب جرائمهم، هو أن القانون السّوري بدل أن ينزل بالمغتصب أشد العقوبات، كافأه بتخفيف عقوبته وفقاً للمادة التاسعة من قانون العقوبات، في حال عقد زواجه على ضحيّته، إذ إنه يستفيد من العذر المخفف وفق أحكام المادة /241/ على ألا تقل العقوبة سنتين حبساً، ويعاد الفاعل  إلى المحاكمة، إذا انتهى الزواج إما بطلاق المرأة دون سبب مشروع، أو بالطلاق المحكوم به لمصلحة المعتدى عليها قبل انقضاء خمس سنوات على الزواج، ليضعها أمام ضغط المحيط القاهر للزواج خوفاً مما يسمى ثقافة العار، لا بل تجاهل القانون تماماً جرائم الاغتصاب الزّوجي، فنصّ في المادة 489 على عقوبة من اغتصب “غير زوجه” دون ذكر أي عقوبات للاغتصاب الزّوجي. والسبب يعود إلى أن لهذه القوانين خلفيات دينية وعشائرية وخصوصاً ما تسمى جرائم “الشرف“.

على الرغم من أن سوريا صادقت على الانضمام إلى اتفاقيات حقوق الإنسان السبعة الرئيسة ومن بينها “اتفاقية حقوق الطفل” و”اتفاقية إلغاء جميع أشكال التمييز ضد المرأة” المعروفة باسم “سيداو” إلا أنها تحفظت على مواد من هذه الاتفاقية لعدم مواءمتها مع القوانين السورية. بالإضافة إلى الدور السلبي الذي تلعبه المؤسسات والمراكز الإعلامية والدينية بإظهار النساء بدور نمطي تقليدي كربّة منزل فقط.

لذا يتطلب من المرأة السورية اليوم وفي هذه المرحلة المهمة التي تشهد فيها المنطقة تغييرات حقيقية، الخوض في نضال فكري وأيديولوجي وتنظيم صفوفها وتعزيز دورها في وجه هذه السياسات والمخططات التي تطبق ضدها وتستهدف إرادتها وكيانها، لا سيما بعد الاحتجاجات الأخيرة التي تشهدها البلاد.

الاحتجاجات الأخيرة التي يشهدها الجنوب السوري المطالبة برحيل بشار الأسد، ولا سيما في السويداء، تميزت عن غيرها من الاحتجاجات بمشاركة واسعة للنساء التي احتلت الصفوف الأمامية، وأبدين استياءهن من ممارسات النظام السوري المطبقة ضدهن. وعدم التراجع عن مطالبهن المحقة في الحياة الحرة والعيش الكريم وتحقيق التغيير الجذري والتحول الديمقراطي في البلاد، وذلك عبر بذل كفاح منظم ومتواصل حتى الوصول إلى تغيير كافة القوانين والدساتير التي كتبت وسطرت بمفاهيم ذكورية استهدفت إقصاء المرأة ودورها الحيوي في المجتمع.

الجميع يعلم الدور التاريخي الذي لعبته النساء في السويداء بوجه كافة الاحتلالات التي تعاقبت على احتلال جبل العرب، وإحدى هؤلاء النساء الشجاعات اللواتي سطر التاريخ أسماءهن في منطقة جبل العرب، بستان شلغين ابنة قرية صميد في اللجاة، حيث باعت مصاغها لشراء المؤونة والطعام للثوار، ثم باعت ماشيتها لشراء السلاح في ثورة الجبل ضد المستعمر الفرنسي حينها. وأثبتت للجميع كيف أن النساء يستطعن الدفاع عن أرضهن وكرامتهن، واليوم الدور ذاته والمسؤولية ذاتها مطلوبة من النساء في السويداء، فهنّ قادرات على إحداث تغييرات حقيقية على أرض الواقع، وبوصفهن صاحبات ثقافة مرنة نابضة بالحياة، يجب أن يتمسكن بحقهن في الحياة الكريمة مهما كلف الأمر، وليعلمنّ أن الانتصار على المآسي والمظالم إنما يكون بالنضال المتواصل.

نعم الحرب الدائرة في سوريا غيّرت حياة النساء وجعلت منها بؤرة للعوز والفقر والمآسي، ولتغيير ما غيرته هذه الحرب وردّ المثل بالمثل، يتطلب من النساء السوريات الوقوف في وجه المنظومة السياسية والأمنية التي لم تتغير أو تغير من ذهنيتها الاستبدادية المتسلطة على رقاب السوريين منذ عقود طوال، وذلك إنما يمر عبر القضاء على الخوف الذي زرعته تلك المنظومة في النفوس، وإنهاء حقبة الحكم الدكتاتوري في البلاد.

ما أكثر الاحتجاجات التي شهدتها البلاد على مدار مسيرة الثورة السورية، ولكن هذه المرة  كلي أمل بأن هذه الاحتجاجات الأخيرة ستكون البارقة التي تنير نفوسنا بعد كل ما حل بها من آلام، نعم كلنا أمل بأن أميرات جبل العرب الشامخ سيحدثن المفارقة المنتظرة، عبر تصعيد انتفاضتهن ضد الظلم والطغيان والوقوف في وجه آلة القمع والمقصلة التي بترت أجزاء الجسد السوري، فاليوم الفرصة قد سنحت وقد لا تعود، لذا من الضروري رص الصفوف جميعها من أجل خلق حياة حرة تسودها الكرامة والمساواة والتخلص من العنف والآلام والمعاناة والمآسي، والخلاص من سلطة الاستبداد والسير على درب الحرية.