في مقاربةٍ عميقةٍ على مستوى نموذجِ التفكيرِ وأسلوبِ بناءِ المجتمعاتِ والكياناتِ السياسيّة، يرسمُ أرنولد توينبي خطوطاً فاصلةً بين جملةِ المصطلحاتِ المتداولة ليميّزَ بين المجتمعاتِ الهمجيّةِ غير المنتجةِ مقابلَ الحضاريّةِ، كما ميّز بين حضارةِ كياناً سياسيّاً واقتصاديّاً والمجتمعاتِ الحضاريّةِ، وصنّف طبيعةَ النزاعَ، فأشار للتباينِ بين هجومِ البدويّ مقابل الفلاح، وأسقط ذلك على نشأةِ المجتمعِ الأرثوذكسيّ الروسيّ والتوسّعِ على حسابِ بداوة المغولِ وردِّ الفعلِ المبكّر تجاه تأثيرِ شعوبِ الأطلسي.
حضاراتٌ مهددةٌ بالاضمحلال إحداها الروسيّة الأرثوذكسيّة
يخالفُ المؤرّخ البريطانيّ أرنولد توينبي (1889 – 1975) عدداً من الفرضيات الشائعة خطّها مؤرخون سبقوه في التدوينِ الشاملِ لتاريخِ الحضاراتِ، من بينها مخالفته لفرضية الدورَ التجديديّ الذي قامت به الشعوب الهمجيّة في الحضارة الغربيّة. والهمجيّة والبرابرة توصيف يتكررُ كثيراً لدى توينبي ومؤرّخي الحضاراتِ تجاه المجتمعاتِ غير المنظّمةِ وغير المنتجةِ لنمطِ أرقى في الإدارةِ والحكم. يقصر توينبي دورَ الشعوبِ المهاجرة، من القبائل البدائيّةِ السلافيّةِ والجرمانيّةِ والفايكنغ، بأنّها حضرت موتَ المجتمعِ الهلينيّ، وما كانوا – على حد تعبيره – إلا نسوراً تتغذى على الجيفةِ، وعصر بطولتهم إلا خاتمة للتاريخ الهلينيّ (اليونانيّ – الرومانيّ) لا فاتحةَ التاريخِ الغربيّ (مختصر دراسة للتاريخ – الفصل الثاني – ترجمة فؤاد شبل، المركز القومي للترجمة- ص 25).
إنّ منهج توينبي في تصنيفِ الحضاراتِ متداخلٌ ومربكٌ بالترتيبِ والتصنيف، وتعرضت أطروحاته للكثيرِ من الإجحافِ أيضاً على أيدي الباحثين عن سوءِ النية، وبما أنَّ هذه السطور تبغي تقييم توينبي للمجتمعِ الروسيّ في التاريخِ والحضارةِ، فإنّه صنّف المجتمعَ الأرثوذكسي الروسيّ ضمن المجتمعاتِ الحضاريّة السبعة المتبقية حالياً، حيث تعيشُ ستة منها مرحلةَ الاضمحلالِ، من بينها الأرثوذكسيّةِ الروسيّةِ، بينما أبقى البابَ مفتوحاً أمام الإجابةِ عن مصير الحضارةِ الغربيّةِ وإن أوضح الكثيرَ من مكامنِ الخللِ فيها، وشكّكَ بإمكانيّةِ أن تبقى صامدةً.
الحضارة كياناً سياسياً ومجتمعاً
ميّز توينبي بين الحضاراتِ ككياناتٍ سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ، وبين المجتمعاتِ الحضاريّة؛ فعلى سبيل المثال، لا يوجدُ شيءٌ بالتحديدِ اسمه المجتمعُ الحضاريّ العربيّ، وإن كان يتسامحُ مع توصيفِ “الحضارةِ العربيّةِ الإسلاميّةِ” ضمن تفكيكه للظاهرة الأوسعِ وهي المجتمعِ الحضاريّ الإسلاميّ، وهذا المجتمعُ يتكونُ من توأمين حضاريين هما المجتمع الحضاريّ الإيرانيّ والمجتمع الحضاريّ العربيّ، وكلا التوأمين ينحدران من المجتمع السوريّ، النواة الأصليّةُ للفرعين الكبيرين: الإمبراطوريّةُ الأخمينيّة والدولة العباسيّة، وهذه نظرية غريبة في الطرحِ لكيفيّةِ ربطه الحضاراتِ الناشئةِ في بلاد الرافدين وإيران بمثابةٍ أبناء للأبِ السوريّ، ولم تلقَ رواجاً، غير أنَّ أطروحته ككلّ ملفتة من ناحيةِ أنّه لا يميلُ إلى نظريةِ وحدةِ الحضارةِ البشريّةِ بالمفهومِ السياسيّ الذي يتم الترويج له. في السياقِ نفسه يذهب توينبي لتشريحِ المجتمعِ الروسيّ، فهو جزءٌ من المجتمعِ المسيحيّ الأرثوذكسيّ، والأرض البديلة لتمثيلِ هذا المجتمع بعد تعرضِ الأرثوذكسيّةِ الأصليّةِ في الأناضولِ للهجمةِ الإسلاميّةِ والضغط الغربيّ.
تحدّي البيئةِ وإبداع القوزاق
يتطرق توينبي للحضارةِ الأرثوذكسيّةِ الروسيّةِ في الفصل السابع (تحدّي البيئةِ) من كتابه المعرّبِ إلى “مختصر دراسة للتاريخ”، فقد كان الحوض الأعلى لنهرِ الدنيبر (الذي يقسم أوكرانيا إلى نصفين)، هو المنطقةُ الروسيّةُ التي استقرت فيها لأولِ مرّةٍ الحضارةُ المسيحيّةُ الأرثوذكسيّةُ خارجَ الأناضول وبينزطة، ثم نقلها من هناك إلى حوضِ الفولغا الأعلى خلالِ القرن الثاني عشر، سكان الحدود الذين كانوا يوسّعون حدودهم في هذا الاتجاهِ على حساب وثنيي الغابات الشماليّةِ الغربيّة من الفنلنديين البدائيين. ولكن، ما لبث أن تراجعَ مركزُ الحيويّة إلى الدنيبر الأدنى، ليجابهَ ضغطاً ساحقاً من جانبِ بدو السهبِ الأوراسيّ، وكان هذا الضغط، والذي فرض على الروسِ فجأةً، نتيجةً لحملةِ باتو خان المغوليّ عام 1237م، متواصلاً بشدّةٍ، ومن الطريفِ أنَّ تحدّياً شديدَ الوطأةِ إلى درجةٍ خارقةٍ، قد استثار استجابةً إبداعيّةً فريدةً (أي مجموعة القوزاق المحاربة).
لم تقل هذه الاستجابة شأناً عن تطورِ أسلوبٍ جديدٍ للحياةِ وتنظيمٍ اجتماعيّ جديدٍ أتاح لمجتمعٍ مستقرٍ، للمرة الأولى في التاريخ، لا مجردَ الاحتفاظ بكيانه تجاه البدو الأوراسيين، ولا مجردَ ردعهم بحملاتٍ تأديبيّةٍ مؤقتةٍ فحسب، بل أتاح لهم (أي القوزاق) غزو أرض العدو غزواً نهائيّاً وتغيير أرضِ البدو الطبيعيّ عبر تحويلِ مراعي الماشية إلى حقولِ فلاحين، والاستعاضة عن مخيماتهم المتنقلة بقرى مستقرة.
يضيف توينبي: كان القوزاق الذين أنجزوا هذا العملَ البارعَ، سكان الحدودِ المسيحيّةِ الأرثوذكسيّةِ الروسيّة الذين صُهِروا في بوتقةِ الحدودِ ضد البدو الأوراسيين في غضون القرنين التاليين وتشكّلوا على سنداتها، ويدينون إلى أعدائهم باسمهم (القوزاق) الذي جعلوه أسطوريّاً، ولقد كانت جماعاتُ القوزاق التي انتشرت بعيداً والتي كانت -وقت إبادتها خلال ثورة 1917- تصطفُ عبر آسيا مباشرة من نهر الدون حتى نهر أوسوري، تنحدر جميعها من جماعة أمّ هي قوزاق الدنيبر. (الجزء الأول- ص 192).
وفي نفس الوقت الذي تميّز باستجابةِ القوزاق الظافرةِ لضغطِ البدو من الجنوبِ الشرقي، تلقّى حدّ آخر الضغطَ الخارجيّ الأساسيّ، فأصبح بذلك البؤرةَ الأساسيّةَ للحيويّةَ الروسيّة، إذ تعرضت روسيا في القرن السابع عشر، لأولِ مرّةٍ في تاريخها الحديثِ، إلى ضغطٍ هائلٍ مصدرُه العالمُ الغربيّ، تمثّل في احتلال جيشٍ بولونيّ موسكو فترة عامين (1610-1612). وأمكن السويد بعد ذلك بقليل إبعادُ روسيا عن البلطيق بفضل استيلائها على جميع ساحل هذا البحر الشرقي. ولكن لم يكد ينصرم القرن السابع عشر، حتى استجاب بطرس الأكبر لهذا الضغط الغربيّ بإنشائه مدينة بطرسبرغ عام 1703 على أرض استردها من السويد، ونشر على بحر البلطيق، على طريقة القوى البحريّة الغربيّة، عَلَم البحرية الروسيّة. (ص 193-194).