سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

الاقتصاد ومشكلاته

دجوار أحمد آغا –

روناهي/ قامشلو ـ دائماً ما يقال أن الرأسمالية هي النظام الاقتصادي الوحيد الناجح, غير أن ما يبدو جلياً لمعظم سكان العالم اليوم, هو أنها لا تعمل من أجل تلبية احتياجاتهم, وتخبرنا تقارير منظمة الصحة العالمية أن أكثر الأمراض ضراوة وأكثرها فتكاً في عالمنا اليوم, ليس تجلط الشريان التاجي أو السرطان, لكنه “الفقر المدقع” الذي يعاني منه مائة ألف مليون شخص, وهذا البؤس هو أحد الخصائص المميزة للحياة حتى في البلدان المتقدمة صناعياً, حيث يوجد أكثر من ثلاثين مليون عاطل عن العمل وخمسة عشرة مليوناً آخرين يعملون عملاً مؤقتاً وغير مستقر, كما تشير آخر احصائيات منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي. وفي الولايات المتحدة الأمريكية – أغنى مجتمع في تاريخ البشرية – كان يعيش اثنا وثلاثون مليوناً تحت خط الفقر في عم 1988 (أي في قمة رخاء الثمانينات).
كريس هارمن الاقتصاد المجنون
عندما يتم التحدث عن الاقتصاد, يتبادر إلى مخيلتي على الفور كلام المفكر والفيلسوف عبد الله أوجلان عن الاقتصاد ومشكلاته عندما يقول:
“لطالما تخطرني مجموعات النمل كلما دار الحديث عن المشاكل الاقتصادية. فحتى حيوان صغير بحجم النمل لا يعاني من أية مشكلة اقتصادية (الاقتصاد بالنسبة لكل كائن حي هو مشكلة التغذية), فكيف يعاني كائن راق وعاقل وخبير كالإنسان من القضايا الاقتصادية المجحفة؟ بل كيف يمكن له أن يعيش حالات يحمر لها الوجه خجلاً, كالبطالة مثلاً؟ ما الذي يعجز ذكاء الإنسان عن التعمق فيه وتحويله إلى عمل في الطبيعة؟ لا تنبع القضية بالتأكيد من الوظيفة الطبيعية, وهي ليست معنية أيضاً بالمحيط, فذئب الإنسان موجود في داخل الإنسان. أي أن كل قضية اقتصادية متعلقة برسملة المجتمع, وعلى رأسها البطالة”. “مانيفستو الحضارة الديمقراطية المجلد الثالث سوسيولوجيا الحرية  صفحة 128  الطبعة الثانية 2014”.
من هنا يمكننا أن ننطلق, بداية في تعريف الاقتصاد, فهو ليس كما يشاع بأنه علم دراسة المال, أو كما تعمل عليه الليبرالية باختزالها كل شيء إلى اقتصاد وجدوى اقتصادية وهي التي تنظر إلى كل ظاهرة مناقضة لاقتصاد على أنها اقتصاد، بل هو علم قائم بذاته وهو يهتم بتلبية الاحتياجات الضرورية المادية للمجتمع كما أنه يمكن تعريفه بالمعنى الضيق أي بكونه عملية تبادل أو مقايضة للاحتياجات المادية الضرورية بدل قيمة الاستخدام.
الآن دعونا نتحدث عن أسباب ظهور المشاكل الاقتصادية, فقبل ظهور نظام الدولة لم تكن هناك أية مشاكل اقتصادية إطلاقاً, بل كانت الأم هي من تتولى عملية الاقتصاد برمتها ولم تكن هناك أية أزمات أو مشكلات, ولكن على وجه الخصوص, بعد أن ظهر فائض الإنتاج بعد الثورة الزراعية وبدأت الدولة بوضع يدها على فائض الإنتاج وتوجهت فيما بعد إلى رسملة المجتمع وأصبح كل شيء يقاس بالمال, بدأت الأزمات والمشاكل تظهر وأصبحت أكثر عمقاً في عصرنا الحالي مع وصولنا إلى مرحلة الرأسمال المالي والربح الأعظمي الذي تسعى إليه الحداثة الرأسمالية العالمية.
لم يكن الربح ورأس المال في يوم من الأيام هدفاً, ولم يجدا مكانهما في تطور المجتمع أبداً, فقد كان المجتمع خلال مسيرته على مر آلاف السنين, يدرك أن تكديس رأس المال يتسم بالإفساد الأفظع تأثيراً. وعلى سبيل المثال, يكاد لم يبقى دين إلا وأدان الربا كأحد الأساليب المؤثرة في تراكم رأس المال. إن الدافع الرئيسي وراء البطالة وازديادها, إنما يكمن في قيام رأس المال بربط المجتمع بالأعمال والأنشطة الراكضة وراء جني الربح. لكن؛ هذه الأعمال والأنشطة لا تتوافق مع تأمين الاحتياجات الضرورية للمجتمع بتاتاً, فإذا كان الإنتاج الهادف إلى إشباع وتأمين احتياجات الناس الضرورية لا يدر الربح, فلا يمكن أن يكترث رأس المال بتخبط المجتمع ضمن المجاعة والفقر والحرمان علماً أن ملايين البشر هم على هذه الحال راهناً. فمثلاً, إذا استثمر بعض أصحاب رأس المال في مجال الزراعة, فلن تبقى هناك قضية اسمها المجاعة. لكن؛ على العكس من ذلك تماماً يقوم أصحاب رأس المال بإفراغ الزراعة من محتواها وإفسادها بسبب ضآلة الربح فيها. إذ؛ من غير الممكن لرأسمالي أن يفكر بالاستثمار في قطاع الزراعة ما دام يكسب ربح أعظمي وبكميات كبيرة من الأموال عن طريق الاستثمار في قطاع “المال عن طريق المال”. البطالة في المجتمعات لا يمكن القضاء عليها, حتى لو أريد العمل بأرخص الأجور.
نصل إلى نتيجة مهمة جداً وهي كما يقول أوجلان: “يجب الاستيعاب جيداً أنه لا يمكن للمجتمع أن يتخلص من البطالة والبؤس, دون القضاء على سياسات ونظام الربح الأعظمي المتأسس على فائض القيمة”. “عبد الله أوجلان  سوسيولوجيا الحرية صفحة 131 “.
للقضاء على المشكلات الاقتصادية وتحسين الوضع الاقتصادي للمجتمع لا بد من معرفة وتطبيق المبادئ الاقتصادية في الحضارة الديمقراطية في مواجهة الهجمة الشرسة من الحداثة الرأسمالية والتي وصلت إلى ذروتها من خلال الامبريالية في مرحلتها المالية التي خرجت عن التوظيف في القطاعات المنتجة نتيجة إشباعها, وباتت تبحث عن مجالات خارج الاقتصاد الحقيقي من خلال القيام بنشاطات تقوم على المال مقابل المال أي المضاربة والتراكم المالي السريع والتضخم المالي . لذا؛ بات العالم ينحكم للطغم المالية.
الأساس الاقتصادي للحضارة الديمقراطية على تناقض دائم مع احتكارات رأس المال المبنية على فائض القيمة الاجتماعية, فهو منفتح على ممارسة شتى أشكال النشاطات بحرية, بشرط أخذ الاحتياجات الاجتماعية الأساسية والعناصر الأيكولوجية بعين الحسبان في تطور الزراعة والتجارة والصناعة. وهو يعتبر المكاسب شرعية ما دامت خارج إطار الربح الاحتكاري. كما أنه ليس مضاداً للسوق, بل على العكس, هو اقتصاد سوق حرة حقيقية, نظراً للوسط الحر الذي يوفره. ولا ينكر دور المنافسة الخلاقة في السوق، بل إن ما يناهضه هو أساليب الكسب بالمضارة, أما المعيار في إشكالية الملك والأملاك, فهو العطاء. في حين دور الاحتكار كملكية يتناقض مع العطاء في كل الأوقات. وعليه, فلا الملكية الفردية المفرطة, ولا ملكية الدولة تندرجان في إطار الحضارة الديمقراطية. فالاقتصاد في الطبيعة الاجتماعية قد مورس دوماً على شكل مجموعات. إذ؛ لا توجد علاقة للفرد بمفرده أو للدولة بمفردها مع الاقتصاد, فيما خلا نزعة الاحتكار. أما أشكال الاقتصاد التي يكون فبها الفرد أو الدولة موضوع الحديث, فتتجه صوب الربح أو صوب الافلاس بالضرورة. بينما الاقتصاد هو عمل خاص بالمجموعات على الدوام, وهو الميدان الديمقراطي الحقيقي للمجتمع الأخلاقي والسياسي. الاقتصاد يعني الديمقراطية, والديمقراطية ضرورية للاقتصاد أكثر من غيره, وبهذا المعنى, لا يمكن تفسير الاقتصاد كبنية تحتية أو فوقية, بل من الواقعية أكثر تقيمه كممارسة ديمقراطية أساسية أكثر بالنسبة للمجتمع.    
رأس المال يستولي على المجتمع ويسخر كل شيء فيه لخدمته ويتورم بامتصاصه للمجتمع ويعطي العمل قطرة مما امتصه ليجعل منه شريكاً له في الجرم وفي النهاية؛ فإنه يمكننا نرى بأنه يتم اختزال العامل تدريجياً ليصل إلى مستوى دور الحزام الذي يربط المجتمع باحتكار رأس المال.
لماذا لا نعمل من أجل حل هذه المشكلات الاقتصادية بعيداً عن الدولة وحتى عن الإدارة الذاتية الديمقراطية التي هي تجربة جديدة وجديرة بالمتابعة رغم السلبيات والنواقص الموجودة فيها, لماذا لا نعتمد على أنفسنا في تلبية احتياجاتنا الضرورية والأساسية لاستمرارية الحياة؟ هل نحن عاجزين عن تأمين مستلزمات حياتنا اليومية؟ ألا نستطيع أن نتكاتف ونتعاون فيما بين بعضنا البعض ونعمل بشكل جماعي لضمان استمرارية مسيرتنا في الحياة؟ أم أن الأمر كله متعلق بنا ونحن نلقي به على الدولة فيما مضى والآن على الإدارة الذاتية الديمقراطية, كم من أغنياء وأصحاب أموال وأراضي في هذه المنطقة وهم يسعون إلى جني المزيد والمزيد من الأرباح؟ ترى متى سننجز الثورة الذهنية المجتمعية التي تعمل من أجل المصالح العامة وتحقق في الوقت نفسه المصالح الخاصة ضمن المعقول! إن قيام الأخلاق المجتمعية والسياسة المجتمعية بوظائفها بوصفها أنسجة وأعضاء أساسية وحية في المجتمع والاندفاع بالسياسة الديمقراطية نحو التشبث بمهامها من خلال عقول حقيقية تعمل من أجل بناء المجتمع الأخلاقي السياسي. الشيء الوحيد الذي نحن بأمس الحاجة إليه الآن أكثر من أي وقت مضى هو: “التقاء يد الكادح الحقيقي مع الأرض”.