سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

جعدة المغارة؛ الصورة الأولى لأنسنة الإنسان

إعداد/ آزاد الكردي –

روناهي/ منبج: تتميز قرية جعدة المغارة التي تستلقي في جوار جسر قوزاق؛ كنضار من الضياء وتلتحف الخاصرة اليمنى لنهر الفرات، فتتهامس موسيقاه بعبق القدم والتاريخ؛ بامتزاج طبيعي يتجاوز في مشهده حدود السحر والجمال.
 استكشاف معالم إنسانية بالغة القدم
عملت البعثة الفرنسية الأثرية التي ترأسها البروفسور إريك كينيو في عام 2007م في موقع جعدة المغارة وتبين أنه تل صغير بارتفاع ستة أمتار لكن الحفريات وصلت إلى تسعة أمتار، يمثل كل متر منها الصورة الأولية للفترة الاستيطانية وانتقال الإنسان من مرحلة الصيد إلى مرحلة جني الثمار، وعثر على بقايا لنباتات وبعض الحيوانات إلى جانب مجسد رأس الثور البري مع قرنيه. هذا الاكتشاف الأثري يعتبر ذا أهمية كبيرة لا سيما وأن الحقبة التاريخية له هي الأقدم في سوريا والشرق الأوسط إضافة إلى أنه ذو صلة بمواقع تاريخية أخرى؛ كموقع المريبط والجرف الأحمر والعبر, ما يمنح سوريا فضل السبق في انطلاقة الثورة الزراعية الأولى في العالم.
يعود الموقع إلى الألف الحادي عشر قبل الميلاد أي إلى فترة المسماة بالعصر الحجري الحديث، وهي الفترة التي تمكن الإنسان السوري في منطقة وادي الفرات من التكيف مع الحياة الجديدة التي استقر بها من خلال زراعة القمح وتدجين الحيوانات.
سوريا هي مهد الثورة الزراعية الأولى
عثر في موقع جعدة المغارة على لوحة مرسومة بشكل مباشر على الجدران الطينية، ما يجعلها من أقدم اللوحات في العالم، إذ وجدت ضمن بيت دائري مبني من الحجارة والطين، تحفه بروزات نحو الداخل بطول مترين وارتفاع خمسة أمتار وعرض متر واحد، وتوضع فيه القطع الأثرية المهمة. هذا الاكتشاف لشكل البيت هو الأول من نوعه في المنطقة وبالتالي فهو يثري في الفترة التي شهدت العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار( النيوليتك). بينت الدراسات في العصر الحجري أن الإنسان كان يعيش حياة المشاعية متنقلاً بين الصيد والقنص وجمع والتقاط الثمار. وظل الأمر هكذا عدة آلاف من السنين، ليستقر لاحقاً بالقرب من مصادر المياه، ليأتي الصيد إليه لا أن يذهب هو إليه, حيث كانت الحيوانات تأتي لتشرب من ضفاف الفرات، إذ تمكن من صناعة الفخاخ والشراك لها، ليقنصها ويصطادها ويأكلها، ووجدت في الموقع كمية من عظام الحيوانات يصل ارتفاعها أكثر من متر، من مختلف الأنواع، وبالأخص الجاموس المحلي وعجوله لكنه انقرض الآن حيث كان يتميّز بضخامته فيصل ارتفاعه عند الكتف 180سم والتباعد بين رأسي قرنيه 2 م، واللافت بالأمر أن هذا الحيوان قد لاقى تقديساً فيما بعد، وهذه المجموعة البشرية الأولى لم تأكل السمك نهائياً. ولم يعتمد الإنسان في تلك الفترة بغذائه على اللحوم، وإنما كان يسهل عليهم الذهاب شرقاً نحو السهول المجاورة، ليلتقطوا حبوب القمح البري، ويحضّروها ويطحنوها ويصنعوا منها نوعاً من الخبز خاصة ما يثبت ذلك وجود طواحين حجرية بدائية وبعض أنواع الحبوب الأخرى المحروقة. ومن العادي والتلقائي أن تنبت البذور التي تسقط منهم، ومع التكرار ربما كانت هناك البدايات لاكتشاف الزراعة، كذلك عندما تركوا صغار الحيوانات لتسمن وتكبر عرفوا تربيتها وتدجين الحيوانات. كما وعثر على أجزاء من اللبن عليها رسومات فنية على أرضية البيت وأدوات مصنوعة من عظام الحيوانات والصوان، وكذلك تمثال لرجل في وضعية الوقوف طوله أقل من خمسة سنتيمترات. وأيضاً تمثال لامرأة نصفي مصنوع من الحجارة البيضاء بطول أقل من خمسة سنتيمترات وهو بوضعية تعبد ويشبه الإلهة الأم أو ربة الخصب عشتار، ويعتقد البعض أن ذلك يمثل بداية ما يعرف بـالإلهة عشتار ربة الخصب والعطاء والجمال، والتمثالان مصنوعان من الطين والكلس والصلصال، حيث جريت مقارنتهما بتماثيل مشابهة لها وجدت في رها بشمال كردستان.
كنوز من العبر والأثر على ضفاف النهر
وتظهر الدراسات شكل المسكن الدائري ويبلغ قطره 5ر7 م له عمود مركزي تستند عليه قطع خشبية وأغصان تشكل السقف, ينقسم من الداخل إلى حجيرات صغيرة مربعة أو دائرية , موزعة بشكل عشوائي أبعادها بحدود “5 ر1م ” ومن خلال الهياكل العظمية البشرية التي وجدت مطوية الرجلين بوضعية القرفصاء ومدفونة بشكل جانبي تحت أراضيها, ويستدل أن المجموعات البشرية الأولى كانت تعيش هناك ولم يعرف إن كانت هذه الهياكل لرجال أم نساء ولم يتم التعرف على عمر العظام لفقدانها الكربون الذي يمكن من خلاله أن يستدل على عمر العظام. إلا أن أهم ما اكتشف هي الرسوم الزخرفية الهندسية الشكل على ثلاثة جدران في الموقع يصل ارتفاعها إلى مترين وبثلاثة ألوان؛ الأبيض والأحمر والأسود وأصبح الموقع يعرف بـ (بيت الرسومات) وهي الأقدم في الشرق الأوسط، بل هي الأقدم من نوعها حتى الآن لما تجسده الرسوم الموجودة على جدران صنعها الإنسان بنفسه في تلك الفترة.
لوحة جدارية من مخلفات الإنسان الأول
تبرز واجهة بناء المنزل من خلال لوحة بمقدمة مستطيلة الشكل بطول تسعة أمتار، عليها رسومات هندسية ذات الألوان الثلاثة وهي الأحمر والأسود والأبيض وعلى جانبي المجسد المستطيل يوجد حائط نصف دائري يمثل قرني الثور بطول متر لكل قرن وقد تم البناء بالحفر في الأرض ومن ثم إعادة البناء بالحجارة ثم تم طلاؤه بالطين، وهو مازال محافظاً على شكله الأصلي وألوانه وأعمال الزخرفة عليه بكل التفاصيل. وعثر في ذات المكان على تجسيد لجمجمة الثور البري التي تعود إلى 8700 سنة ق.م وربما يعود سبب تجسيد جمجمة الثور البري نظراً لأنه كان يمثل في تلك الفترة القداسة إذ كان يعبد آنذاك بدليل أنه تم العثور في العديد من المواقع الأثرية القريبة على جمجمة الثور البري الطبيعية، وهي تنتشر في أماكن مهمة من المنزل بكامل أجزائها مع قرونها أما سبب المحافظة على الألوان بصفائها، فإنه يعود حتماً إلى قدسية المكان، وعلى ما يبدو أنه عندما رحل الناس قاموا بطمر المكان مباشرة من دون أي تخريب. كما تم اكتشاف غرفة كائنة في المنزل كان سقفها قد احترق في تلك الفترة وسقط ما حافظ على دعائم المنزل في المكان دون تخريب وقد تم العثور على طبقات الخشب من خلال أعمدته مما ساعد على إعادة بنائه في تلك الفترة. وتشير الدراسات أن البيت كان مخصصاً لإقامة الطقوس الدينية والمناسبات الاجتماعية ليكون بذلك أصل المعابد في الفترات اللاحقة، ويقع ضمن قرية بناها المزارعون الأوائل الذين تركوا مهنة الصيد في مقابل لجوئهم إلى امتهان الزراعة وتربية المواشي. وبالتالي هذا يفسر البدايات الأولى لطقوس العبادة الوثنية التي يعتقد أنها كانت معبداً أو مكاناً مقدساً وهو ما يساعد على فهم البداية الأولى لظهور الممارسات التعبيرية والتي أصبحت فيما بعد طقوساً لعقائد دينية ما.
الجدير ذكره أن تسمية الاسم، أنها أتت من اللهجة المحلية البدوية جعدة باللهجة البدوية تعني “قعدة” والقعدة أتت من القعود، أي الجلوس. أما الشق الثاني من الاسم للمغارة، فهو أن هناك اعتقاد بوجود كهف في المنطقة أتت التسمية للإشارة إليه.