سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

إدلب وإِدامة المشهد الأخير للأزمة

تحقيق / رامان آزاد –

التسوية أو المصالحة كان السيناريو الذي اعتمدته موسكو ودمشق لاستعادة السيطرة على المناطق، وكانت النتيجة النهائية تجميع مقاتلي الفصائل المسلّحة بكافة تصنيفاتهم ومسمّياتهم في “إدلب”، ولذلك أصبحت المحافظة التجميع الأكثر لكل تفاصيل الأزمة السوريّة. وتلك هي الطريقة الروسيّة منذ عهد ستالين حتى تولي بوتين رئاسة الحكومة والأزمة مع الشيشان.
شيْشَنة الأزمة السوريّة
ما يحدث في إدلب هو شَيشنة للأزمة السوريّة بتجميع كل تفاصيلها في جغرافيا محدودة مع احتمالات صراعها البينيّ ما يخفف من تكاليف العملية العسكريّة. إذ من المؤكّد أنّ تعدّدَ الفصائلِ المسلحة الكبير، واختلاف أيديولوجياتها ومرجعياتها ومصادر تمويلها، يتجاوز إمكانيّة تعايشها معاً في رقعة جغرافيّة واحدة محدودة كإدلب، وهو ما بدأ يظهر علناً في صفوف المقاتلين في إدلب من خلال الاقتتال والصراع وعمليات التصفية المتواصلة بينها، كما في المواجهة بين “حركة أحرار الشام” وجبهة النصرة، والتي حاولت إعادة صياغة نفسها تحت مُسمّى “جبهة فتح الشام”، وتنظيم جند الأقصى الذي ضمّته جبهة النصرة، بحجّة حمايته من أحرار الشام.
لم توفر اتفاقية خفض التصعيد في إدلب وما تضمنته من بنودٍ تُشددُ على ضرورةِ تجميدِ كافة أشكال الأعمال القتاليّة من قصف وتحركات عسكريّة، في ختام القمة الروسيّة التركيّة “سوتشي” في 17/9/ 2018 عكس ما كان متوقعاً.
إذ عصفت بإدلب (معقل المسلحين الأخير في الشمال السوريّ) موجة من التفجيرات والاغتيالات وانتشار مريب لعصابات السلب والنهب والخطف مقابل فدى ماليّة في الآونة الأخيرة، وذلك على الرغم من إعلان الفصائل المسيطرة على المنطقة وأبرزها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)- اتخاذ إجراءات صارمة للحد من الخروق وبسط الأمن.
أكثر الهجمات دمويّة منذ سريان الهدنة وقعت في حي القصور وسط المدينة في 18/2/2019، حيث أودى انفجار سيارتين مفخختين مركونتين قرب تجمع سكنيّ بحياة أكثر من 16 شخصاً، بينهم نساء وأطفال ومسعفون، وإصابة ثمانين آخرين بجروح خطرة.
ويمكن أن تكون التفجيرات ممنهجة تنفذها خلايا تتبع للنظام السوريّ بالتوازي مع تحضيرات قوات النظام للمعركة في إدلب فيما يمكن اعتباره ضربة من الداخل فيما وراء الخطوط الدفاعيّة، لإثارة الخوف. كما جاء التصعيد الميدانيّ في إدلب متزامناً مع تصريح لوزير الخارجيّة الروسي سيرغي لافروف الذي كشف عن إعداد قادة عسكريين روس خطة للقضاء على جبهة النصرة التي سيطرت على كامل محافظة إدلب فيما جاء حديث دمشق عن استعادة السيطرة على كامل التراب السوريّ صدى مباشر للتصريح الروسيّ. وتعتبر حِدة تصريحات موسكو ودمشق دليل إخفاق الدول الضامنة في تحقيق تقدم إضافي في اتفاق خفض التصعيد خلال قمة سوتشي الأخيرة، وهذا ما يفسر لجوء روسيا للتصعيد العنيف في إدلب في محاولة لتأليب السكان المحليين على تركيا ووضعها في مأزق كونها أحد الضامنين.
وتعوّل موسكو على عدم رغبة أو قدرة أنقرة على التصعيد وتسخين الجبهات مثلما حصل في معركة “رد الطغيان” مطلع عام 2018، حين استعادت المعارضة المسلحة -بإيعاز تركيّ- السيطرة على مدن وبلدات شرق إدلب.
وبذلك يرتبط مصير الشمال السوريّ بتفاهم بين الدول الضامنة يعكس شكلاً من أنواع المقايضة بين المنطقة العازلة غرب الفرات والمنطقة الآمنة شرقه، في حال أقدمت موسكو وأنقرة على اتخاذ خطوات جريئة وحاسمة.
موعد مع التصعيد
مع استعادة دمشق سيطرتها على كثير من المناطق عبر آلية القصف المركز والمكثف ثم منح فرصة للهدنة والمصالحة لركوب الحافلات والتوجه إلى إدلب، التي بقيت المحطة الأخيرة للأزمة.
واعتباراً من 8/2/2019 تعرّضت إدلب مؤخراً لقصف مدفعيّ وصاروخيّ عنيف من قبل قوات النظام السوري، واستهدفت مدن خان شيخون ومعرة النعمان جنوباً وبلدات اللطامنة وكفر زيتا شمال حماة. وأعلنت المعارضة السوريّة المسلحة أنّها استهدفت بالصواريخ والمدافع مواقع وثكنات عسكريّة لقوات النظام السوريّ بريف حماة، كنوع من الردّ على خرق اتفاق وقف إطلاق النار الذي ترعاه موسكو وأنقرة.
استمرت العمليات العسكريّة لقوات النظام في ريفي حماة وادلب ردّاً على خروقات التنظيمات الإرهابيّة لاتفاق منطقة خفض التصعيد ومواصلة اعتداءاتها على نقاطه وقامت قوات النظام 17/7/2019 بتنفيذ رمايات مركّزة بسلاحي المدفعيّة والصواريخ في المنطقة الممتدة بين قرية الصياد وبلدة كفرزيتا بريف حماة الشمالي. ما أسفر عن القضاء على عدد من الإرهابيين وإصابة آخرين وتدمير عدد من آلياتهم وإمداداتهم. وتزامناً مع عملياتها بريف حماة الشمالي نُفذت ضربات مدفعيّة مركزة على عدد من إرهابيي “جبهة النصرة” وتحصيناتهم في قرية الفطيرة التابعة لناحية كفر نبل بريف إدلب الجنوبيّ.

فقد شنّت مجموعات من “جبهة النصرة” في ريف حلب الغربيّ من اتجاه بلدة خان طومان والراشدين هجوماً يوم 16/6/2019 بقذائف صاروخيّة على قرية الوضيحي بالريف الجنوبيّ.
كما نفّذت ضربات صاروخيّة ومدفعيّة مركزة على خطوط إمداد الإرهابيين ومحاور تحرّكهم في بلدات إحسم وحيش وديرسنبل وترملا بريف إدلب الجنوبيّ أسفرت عن تدمير عدد من آلياتهم وإيقاع قتلى ومصابين بين صفوفهم. فيما أكّد الجانب الروسيّ على ضرورة التصدّي للجماعات الارهابيّة وأعلن لافروف عن “انتقامٍ ساحقٍ”.
وفي 18/6/2019 أُعلن عن وصول طائرات شحن عسكرية إلى مطار حميميم وسفن إنزال عسكريّة روسيّة إلى ميناء طرطوس السوري محملة بأسلحة وذخيرة لدعم الجيش السوريّ والقوات الجوية الروسيّة لمعركة إدلب التي حشد لها الجيش السوريّ أكثر من 100 ألف مقاتل. ونقلت وكالة روسيا اليوم، أنّ سفينتي الإنزال الكبيرتين، “سيزار كونيكوف” و”آزوف” عبرتا مضيقي البوسفور والدردنيل باتجاه ميناء طرطوس السوريّ، مشيرة إلى أنّ غاطس السفينتين يدلّ على أنهما محملتين بشحنات ثقيلة.
وبحسب مواقع إلكترونيّة غربيّة فقد نفّذت طائرات النقل الثقيلة الروسيّة من نوع “آن-124 روسلان” و”إل-76″ ما لا يقلّ عن 14 رحلة إلى قاعدة حميميم الجويّة الروسيّة في سوريا خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة. فيما تشير وسائل إعلام غربيّة إلى أنّ سفن إنزال كبيرة وقطعاً من أسطول السفن المساعدة الروسيّة، إضافة إلى سفن مستأجرة، تشارك في نقل شحنات من أجل دعم مجموعة الطيران الحربيّ الروسيّ المتمركزة في قاعدة حميميم (بضواحي اللاذقية)، وقاعدة التأمين الماديّ والفنيّ للبحريّة الروسيّة في طرطوس، وقوات الجيش السـوريّ.
وبعد إطلاق الجيش السـوريّ لعملية إدلب برزت مشكلة كبيرة أمام تركيا حيث تصرّ دمشق على استعادة إدلب فيما تصرّ أنقرة التي وقعت في مشاكل عديدة مثل موضوع النازحين من شمال حماة وإدلب بسبب إرهاب النصرة على إبقاء نقاط المراقبة التركيّة من دون أن تسحبها فيما تصرّ دمشق على طردها، ودعت تركيا كلا من موسكو وطهران إلى تحمّل مسؤولياتهما لوقف عمليات قوات النظام.
على المقلب التركيّ نقلت وكالة “الأناضول” التركيّة الرسميّة عن وزير الخارجية التركيّ، مولود تشاووش أوغلو، قوله “لا يمكننا التسامح أمام هجمات الجيش السوريّ على نقاط المراقبة التركيّة في إدلب، وهذا يتنافى مع تفاهم سوتشي الذي وقعناه مع روسيا”. وأضاف تشاووش أوغلو، “يقع على عاتق روسيا وإيران مسؤولية وقف هجمات الجيش السوري باعتبار الأخيرين ضامنين للنظام السوري”، حسب تعبيره.
وأعلنت وزارة الدفاع التركيّة، أنّها ردّت على هجوم بقذائف الهاون استهدف نقطة مراقبة تابعة لتركيا بمدينة إدلب. ويعد الهجوم هو الثاني من نوعه في خلال أيام، وهي هجمات وصفتها أنقرة بـ “المتعمدة”، وأنّها من مناطق قوات النظام.
في 19/6/2019 عقد مجلس الأمن الدوليّ جلسة طارئة بطلب ألمانيّ بلجيكيّ كويتيّ مشترك لمناقشة الوضع في إدلب ومخاطر استمرار تواجد القوات الاجنبيّة غير الشرعيّة على الأراضي السوريّة وتصعيد القتال في إدلب وأنّها تهدد منطقة الشرق الأوسط.  وقالت مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية، روزماري دي كارلو، لأعضاء المجلس “إن استمرار القتال في إدلب بات يشكل تهديداً للاستقرار الإقليمي”.
تواصل مع الصين
وفي هذا الصدد تساءل وزير الخارجية والمغتربين السوريّ وليد المعلم عن سبب تواجد القوات التركيّة على الأراضي السوريّة، مؤكّداً أنَّ سوريا لا تريد المواجهة والحرب مع تركيا. وجاءت تصريحات المعلم خلال جلسة المباحثات والمؤتمر الصحفيّ الذي عقده مع مستشار الدولة- وزير الخارجيّة الصينيّ وانغ يي، في بكين يوم 18/6/2019.
المعلم وتعليقاً على الوجود التركي في إدلب، قال،: «نحن لا نتمنى ولا نسعى للمواجهة بين قواتنا المسلحة والجيش التركي من حيث المبدأ»، وتابع: «نحن نقاتل الإرهاب في إدلب وهذه أرض سورية»، لافتاً إلى أنّ تركيا تحتل أجزاءً من الأرض السوريّة. وتساءل المعلم: ماذا يفعل الأتراك في سوريا؟ هل هم موجودن لحماية تنظيمي «جبهة النصرة» وداعش، وحركة تركستان الشرقية الإرهابية، مشدداً على خروج كل القوات الأجنبية الموجودة في سوريا بشكل غير شرعي. ويأخذ السؤال حول التركستان خصوصيّة مهمة في بكين حيث تصر الصين على عدم عودة المقاتلين الإيغور وتبدي استعدادها الضمنيّ للتعاون في سبيل منع عودتهم.
مزيدٌ من الحطب لحريق إدلب
بعد إطلاقِ قواتِ النظامِ عمليةِ إدلب برزت مشكلةٌ كبيرةٌ أمام تركيا حيث تصرُّ دمشق على استعادة إدلب فيما تصرُّ أنقرة التي وقعت في مشاكل عديدة مثل موضوع النازحين من شمال حماة وإدلب بسبب إرهاب النصرة على إبقاء نقاط المراقبة التركيّة من دون أن تسحبها فيما تصرُّ دمشق على طردها، ودعت تركيا كلاً من موسكو وطهران إلى تحمّلِ مسؤولياتهما لوقف هجمات قوات النظام.
وفي حين اكتفت أنقرة بالتعليق فقط على قصف نقطة المراقبة التركيّة التاسعة في محيط مورك، جرى اتصال بين وزير الدفاع خلوصي أكار، ونظيره الروسي سيرغي شويغو، بحثا خلاله تطورات الوضع في إدلب. وعلى حدّ ما نقلت وسائل الإعلام التركيّة عن فحوى الاتصال، فإنّ الطرفين أكدا الالتزام بتنفيذ اتفاقَي أستانة وسوتشي.
لكن الجانب التركيّ استبق الاتصال بتحريك رتل عسكريّ جديد من 20 آلية عسكرية من القوات الخاصة وسط إجراءات أمنيّة مشدّدة ليدخل من معبر كفر لوسين الحدودي مع لواء إسكندرون إلى إدلب، واتجه إلى النقاط التركيّة.
وذكرت تقارير متواترة أنّ تركيا زوّدت المسلّحين مؤخراً بأحدث المعدات من الجيش التركيّ للحيلولة دون انكسارهم أمام قوات النظام الذي يسعى لتدمير منصات صواريخ الإرهابيين. ووفق وكالة «الأناضول» التركيّة، سيجري توزيع تلك الوحدات على النقاط الحدوديّة المحيطة بإدلب، داخل منطقة لواء إسكندرون.
 حربُ استنزاف
لا يبدو أنّ العملية الحالية ستفضي إلى نهاية أكيدة للنصرة وباقي المجاميع الإرهابيّة في إدلب، إذ أنّ حوالي 20% من الإرهابيين هم من الجنسيات الأجنبيّة (الإيغور، الشيشان، الطاجيك، الداغستان، الأنجوش، أتراك ومن دول عربية وأوروبيّة) ولا ترغب دولهم بعودتهم، فيما تتطلع موسكو إلى إنجاز نموذج للمصالحة من العناصر الإرهابيّة السوريّة.
ما تمّ إنجازه من قوات النظام مؤخراً على جبهات أرياف حماة وحلب وإدلب، تمثل في قطع إمدادات الإرهابيين، واستنزاف قواهم، والحفاظ على خارطة الوضع الميدانيّ، مع محاولة القضم التدريجيّ للقرى، ولذلك تتسم المعارك بالضراوة، ويستميت الإرهابيون في إحداث أيّ خرق والتمسك بالأرض في معركة يُفترضُ أنّ تكون الأخيرة، ويسمح لها باستعادة الاستثمار والتحشيد الإعلاميّ.
لا تبدو المعطيات الميدانيّة الراهنة مؤشرات كافية لنهايةِ أكيدة للأزمة ومعركة إدلب، التي تتقاطع فيها المصالح وتتناقض لتظل مراوحةً في إطار الابتزاز السياسيّ، فيما الوجود التركيّ سيكون أمام اختبار حقيقي لحماية وكلائه المحليين.