No Result
View All Result
المشاهدات 1
عبد الله أوجلان –
يُمكِنُ الحديث عن أربعِ أُمَمٍ أكثريةٍ في الشرقِ الأوسط ألا وهي الأممُ العربيةُ والتركيةُ والكرديةُ والفارسية. وسببُ قولي بالأكثريةِ بدلاً من الكبيرة، معنيٌّ بالديموغرافيا. وإلا، فتقسيمُ الأممِ وفقِ كبيرةٍ – صغيرة، ليس أخلاقياً ولا صحيحاً. ومصطلحُ الأمةِ الأقليةِ أيضاً مرتبطٌ بالديموغرافيا. فاستحالةُ النظرِ إلى كينونةِ الأقليةِ بِعَينِ العيبِ أو كسببٍ للصِّغَر، هي من ضروراتِ الحقيقةِ الاجتماعيةِ والأخلاقيات.
إني مُلزَمٌ بتبيانِ فارقي الذي يُمَيِّزني بشأنِ الأسلوب، لدى معالجةِ القضايا الوطنية، فإبرازُ الظاهرةِ الوطنيةِ إلى المقدمةِ تصاعدياً، مرتبطٌ عن كثب بتصاعدِ الحداثةِ الرأسمالية. فهي ظاهرةٌ استراتيجيةٌ يتوجبُ إبرازها للأمامِ في نشوءِ احتكاراتِ الأيديولوجيا والسلطةِ ورأسِ المال. وبَسطُها بعدَ المغالاةِ فيها، هو من ضروراتِ هذه الاستراتيجيات. ينبغي التحدث عن موقفَين ناقصَين وخاطئَين أوليَّين في تحليلِ الظاهرةِ الوطنية. أولُهما؛ الموقفُ الوضعيٌّ المستندُ إلى التمييزِ الحاسمِ بين الذاتِ – الموضوع في فلسفةِ ديكارت. الميزةُ الظواهريةُ للوضعيةِ أمرٌ معلوم. ويَكمنُ خطأُها الأساسيُّ في اعتبارِها الظاهرةَ الوطنيةَ ذاتَ ماهيةٍ موضوعانية، تماماً مثلما الظواهرُ الفيزيائيةُ والكيميائيةُ والبيولوجية. يُهمِلُ هذا الموقفُ الذاتانيةَ والمرونةَ اللتَين في الطبيعةِ الاجتماعيةِ بكلِّ تأكيد. وبلوغُ القضايا الوطنيةِ إلى حدِّ الإباداتِ العرقية، على صِلَةٍ قريبةٍ جداً مع مفهومِ الهويةِ الوطنيةِ الجازمةِ والمتصلبةِ والمنغلقةِ الأطراف. وتشييءُ الطبيعةِ والمجتمعِ على السواء، يُعَدُّ السياقَ الأيديولوجيَّ الأهمَّ في نماءِ الرأسمالية.
تشيئ الطبيعةِ والمجتمعِ على السواء، يُعَدُّ السياقَ الأيديولوجيَّ الأهمَّ في نماءِ الرأسمالية
ينبغي الإدراك بأهميةٍ بالغةٍ أنّ أولَ ثورةٍ كبرى للحداثةِ الرأسماليةِ هي الثورةُ الفلسفيةُ – الأيديولوجيةُ المعتمدةُ على هذا التمييزِ بين الذاتِ – الموضوعِ في الميدانِ الذهنيّ. والوطنية، التي هي إحدى المصطلحاتِ التي أبرَزَتها الثورةُ الأيديولوجيةُ للحداثةِ إلى المقدمة، ليست مصطلحاً مُختاراً عن عَبَث. فهذا المصطلحُ هو المبدأُ الأساسيُّ للثيولوجيا الرأسمالية. إذ ستَغدو الوطنيةُ وكذلك الدولةُ القوميةُ التي ستُصَعُّدَ أكثر، أهمَّ مصطلحٍ إلهيّ، بل ستصبحُ الإلهَ نفسَه على وجهِ الأرض. أي أنّ أعظمَ إلهٍ في أكروبولِ الثيولوجيا الوضعية، سيَحتَلُّ مكانَه بوصفِه الوطنيةَ والدولةَ القوميةَ بكلِّ تأكيد. بينما آلهةُ الحداثةِ الأخرى ستَتَّخِذُ أماكنَها بالتناسبِ طرداً مع أهميتِها ومدى مساهماتِها المقدَّمةِ إلى النظام. وبمبالغةِ الثيولوجيا الوضعيةِ في ظاهرةِ الأمةِ والدولةِ القوميةِ عن طريقِ العلموية، وبإقامتِها إياها بَدلَ ظاهرةِ الأمةِ الدينية؛ ستَحلُّ القضايا والاشتباكاتُ الوطنيةُ هذه المرة مَحَلَّ القضايا والصِّداماتِ الدينيةِ والمذهبية؛ بل ومُفسِحةً بذلك الطريقَ أمام سياقٍ مليءٍ بالحروبِ والإباداتِ الأكثر دموية. من هنا، يجب الاستيعاب على أفضلِ شكلٍ بأنّ الوضعيةَ هي الأيديولوجيةُ المقدسةُ للرأسمالية.
يُبسَطُ ثاني موقفٍ خاطئٍ باسمِ «الذاتانية، الإفراط في المعنى». يسعى هذا الموقفُ إلى عرضِ العديدِ من الظواهرِ البارزةِ للعَيانِ في عهدِ الحداثة، وعلى رأسِها الظواهرُ الوطنية، بأنها ابتكاراتٌ وهميةٌ خيالية. ويُطَوِّرُ مفهوماً تفسيرياً يَقُولُ بأنها من اختراعِ التقاليد. بطبيعةِ الحال، فالظواهرُ الاجتماعيةُ صالِحةٌ للإنشاءِ ولأنْ تَكُونَ ظواهراً مُخترَعة، نظراً لاتسامِها بطابعِ الطبيعةِ الثانية. ولكنّ الانطلاقَ من هذا الصلاحِ في التشكيكِ بالقيمةِ الوجوديةِ للظواهرِ الاجتماعية، واختزالِها إلى ألاعيب ذهنيةٍ خالصة؛ إنما يُفضي إلى نتائج خاطئةٍ ومُهِيبةٍ بقدرِ الموقفِ الموضوعانيِّ بأقلِّ تقدير. فالظواهرُ في هذه الحالةِ تُعتَبَرُ محضَ مصطلحاتٍ خياليةٍ تذهبُ أدراجَ الرياحِ وليس لها حضورٌ ملحوظ، عوضاً عن النظرِ إليها كقِيَمٍ شيئانيةٍ قطعيةٍ وصارمةٍ متصلبة. وبهذا الانحرافِ الثاني الجادِّ الفاصلِ بين الحقيقةِ والواقع، لا يمكنُ بلوغ نتائج علمية. ذلك أنّ الذاتانيةَ هي الشكلُ الجديدُ لأيديولوجيةِ الحداثةِ التي فَقَدَت ثقتَها بنفسِها، والذي تَقَمَّصَته في عهدِ ما وراء الحداثةِ المتأخر. أي أنها التعبيرُ عن الموضوعانيةِ الشيئانيةِ في عهدِ ما وراء الحداثة. وفي المحصلة، فرؤيةُ القضايا الاجتماعيةِ على أنها قضايا خيالية، والعملُ على حلِّها بِجَلساتِ المعالجةِ اليومية (بالأساليبِ النفسية)، إنما يُشيرُ إلى المرحلةِ التي بَلَغَها هذا الموقف. علماً أنّ الحياةَ نفسَها تُبَرهِنُ يومياً مدى فشلِه.
إدراكُ الذهنِ للكونِ تماماً، قد يُفضي إلى مصطلحِ المعرفةِ المطلقة
من العسيرِ جداً فهمِ وحلّ القضايا الاجتماعيةِ الناجمة عن الحداثةِ الرأسمالية، دون فهمِ منهجيةِ عهدِها الظواهريِّ والبنيويِّ حتى الأعماق. فالقضيةُ الحَرِجةُ في منهجيتِها تكمن في العلاقةِ بين الظاهرةِ والإدراك. ذلك أنّ مواقفَ التماثُلِ والتبايُنِ إشكاليةٌ للغاية فيما بينهما. وهذا وضعٌ معنيٌّ بجوهرِ النظام. فالنظامُ يُنشِئُ فلسفتَه بأكملِها على التماثُلِ والتبايُنِ اللذَين بين الظاهرةِ والإدراك، بحيث أنّ التّغَلُّبَ على ذلك أو تَحَمُّلَه غيرُ ممكن. لذا، ففلسفةُ النظامِ بكلِّ مدارسِها عقيمةٌ وبلا حلٍّ فيما بينها.
يَنحُو تفسيري نحوَ البحثِ عن الحلِّ خارجَ إطارِ التماثُلِ والتبايُن. فالظاهرةُ والإدراكُ معنيان بالثنائياتِ الموجودةِ في أساسِ الكون. فالقرائنُ الكونيةُ من قبيلِ المادة – الطاقة، البنية – الوظيفة، والجُسَيم – الموجة تَسري على الظاهرةِ والإدراكِ أيضاً. وحسبَ رأيي، فهذه الثنائيةُ تُعَبِّرُ عن الشكلِ الذي تَتَّخِذُه لذاتِها فيما بين روحِ الإنسانِ وجَسَدِه، والكونِ وذهنه. فإدراكُ الذهنِ للكونِ تماماً، قد يُفضي إلى مصطلحِ المعرفةِ المطلقة. وتعاليمُ المعرفةِ المطلقة (هيغل) من قبيلِ الفناءِ في سبيلِ اللهِ والنيرفانا وأنا الحق، إنما تَحمِلُ هذا الهدفَ بين طواياها. ويَلوحُ أنّ هذه نتيجةٌ قريبةٌ من المستحيل. أما إظهارُ الإدراكِ والظاهرةِ على أنهما مختلفان تماماً، فيُشِيدُ بانقطاعِ الأواصرِ بين الذهنِ والواقع، وخروجِها عن الحقيقة. وهذا ما يَشملُ المتخَلِّفين عقلياً بشكلٍ عامّ. إنها عقليةٌ نصيبُها من الحقيقةِ بخسٌ للغاية، وقيمتُها في الإنشاءِ وبُنيَوِيَّتُها متدنيتان.
تَزولُ ثنائيةُ الإدراكِ – الظاهرةِ من الوسط في حالةِ المعرفةِ المطلقة، وهذا ما مفادُه زوالُ الحَدَث (النشوء). أما انفصالُ الإدراكِ والظاهرةِ عن بعضهِما كلياً، فيُفيدُ بالاغترابِ التامّ. تَنشَأُ المعرفةُ الفلسفيةُ من صُلبِ ومنطقِ معرفةِ الوجودِ الكائنِ بين هذَين القطبَين. وعدمُ الوقوعِ في وضعِ التَّرَنُّحِ بين هذَين الطرفَين، بل والأهمُّ هو أنّ تَقَصّي الحقيقةِ دون الانزلاقِ نحوَهما؛ إنما يُعَبِّرُ عن الحكمةِ والموقفِ الفلسفيّ. وهذا هو السلوكُ الصائب.
لو عُدنا ثانيةً إلى القضيةِ الوطنية، فبهذا التحليلِ الفلسفيِّ المقتَضَب، سنَستوعبُ بشكلٍ أفضل صِلَةَ هذه القضيةِ مع طابعِ الهيمنةِ لذهنيةِ الحداثةِ الرأسماليةِ خلالَ القرنَين الأخيرَين. فالأمةُ لَم تُوجَدْ من عَدَمٍ وبمنوالٍ خياليّ. ولكن، لا يُمكِنُ إنكار كونِها قُماشاً صناعياً أُلبِسَت به الطبيعةُ الاجتماعيةُ كثمرةٍ للمبالغةِ الكبرى. بالمقدورِ جَعل المجتمعِ الوطنيِّ المُقامِ مَحَلَّ القومِ الدينيِّ موضوعَ بحثٍ في علمِ الاجتماع، بشرطِ عدمِ الانزلاقِ إلى كِلا القطبَين. وإدراجُ المجتمعِ الوطنيِّ ضمن نطاقِ علمِ الاجتماع، يقتضي تجاوُزَ الحداثةِ الرأسمالية. فمن دونِ تَخَطّيها، لن يتعدى المجتمعُ الوطنيُّ في معناه كونَه ستاراً سقفياً لاحتكاراتِ القمعِ والاستغلال.
في العصرانية الديمقراطية يتمُّ التشديدُ بالأكثر على الطابعِ الأخلاقيِّ والسياسيِّ للمجتمع
وبُغيةَ تجاوُزِ البنيةِ الإشكاليةِ للمصطلحِ المذكورِ في براديغما العصرانيةِ الديمقراطية، فقد صِيغَت تسميةُ الأمةِ الديمقراطيةِ كمصطلحٍ مُقابِلٍ له. المجتمعُ الوطنيُّ المُنَقّى من كِلا المفهومَين المتطرفَين، والمُنقَذُ من استغلالِ الحداثةِ الرأسمالية، غيرُ ممكنٍ إلا بكونِه أمةً ديمقراطية. فالإنشاءاتُ الاجتماعيةُ المندرجةُ في إطارِ عناصرِ العصرانيةِ الديمقراطية، لا تتَّخِذُ المعاييرَ الوطنيةَ أساساً. ومثلما ذُكِرَ آنفاً، لا يتمُّ الاعترافُ بدورٍ رئيسيٍّ للمصالحِ الوطنيةِ في العصرانيةِ الديمقراطية. بل يتمُّ التشديدُ بالأكثر على الطابعِ الأخلاقيِّ والسياسيِّ للمجتمع. من هنا، فالثنائيةُ الاصطلاحيةُ الأنسبُ من أجلِ عملياتِ إعادةِ الإنشاء، هي الكوموناليةُ الديمقراطيةُ بدلاً من الدولةِ القومية.
بقدرِ ما يَكُونُ التشديدُ المفرطُ على الوطنيةِ في مسألةِ الأمةِ سلبياً داخلَ الشرقِ الأوسط، فإنّ غضَّ النظرِ عن جانبِ الأمةِ في المجتمعيةِ أيضاً يُزيدُ من وطأةِ القضيةِ بالمِثل. وأياً كانت قضيةُ الأمةِ المُتناوَلَة، فبَعدَ الاحتراسِ مِن كِلا الخطأَين من حيث الأسلوب، يُعَدُّ إبرازُ الموقفَين الإيجابيَّين إلى الأمامِ أيضاً الجانبَ الهامَّ الآخَر من الأسلوب. إنهما موقفان علميان، وليسا أيديولوجيَّين. وهما لا يَهدفان إلى سلطةِ الدولتيةِ القومية، بل يَدُلاّن على موقفِ الأمةِ الديمقراطيةِ والكوموناليةِ الديمقراطية. ويتكوَّنُ مضمونُ كِلا الموقفَين من العناصرِ الأساسيةِ في العصرانيةِ الديمقراطية.
النزوعُ نحو القومويةِ والدولةِ القومية، والذي أُوقِظَ وأُجِّجَ بين صفوفِ مجتمعاتِ الشرقِ الأوسطِ في غضونِ القرنَين الأخيرَين، لَم يُؤَدِّ إلى حلِّ القضايا الوطنيةِ كما يُزعَم، بل بالعكس، يَؤولُ إلى تفاقُمِها كالتيهورِ والتِحافِها جميعَ الأنسجةِ الاجتماعية. فرأسُ المالِ يَفرضُ حربَ الدولتيةِ القوميةِ التدميريةَ بدلاً من التنافسِ الإيجابيّ. وما وضعُ الحربِ المُعاشُ في البنى الداخليةِ للمجتمعاتِ وفي علاقاتِها الخارجية، سوى باعثاً أولياً على وضعِ القضيةِ والأزمةِ والفوضى. ولن يَكُونَ عسيراً تشخيصُ هذه الحقيقة، بمجردِ رصدِ التجاربِ المُخاضةِ في كافةِ القضايا الوطنيةِ للمنطقة.
No Result
View All Result