قامشلو/ دعاء يوسف ـ شهدت الساحة الثقافية والمجال التعليمي والإعلامي تكاتفاً مجتمعياً للشعوب في إقليم شمال وشرق سوريا، وذلك في سعي أبناء المنطقة نحو بناء نموذج من التعايش يقوم على التفاعل والتكامل بما يضمن أن يعيش سكان إقليم شمال وشرق سوريا ليس فقط في جغرافيا واحدة، بل ضمن ثقافة متنوعة تتسع للجميع.
تُعد منطقة إقليم شمال وشرق سوريا من أكثر المناطق تنوعاً في القوميات والثقافات واللغات، حيث يعيش الكرد والعرب والسريان والأرمن والإيزيديون، وغيرهم ضمن جغرافيا واحدة، ومنذ الإعلان عن الإدارة الذاتية الديمقراطية، تبنّت هذه التجربة مشروع التعددية الثقافية والاعتراف بحقوق الشعوب، خاصة في مجالات اللغة والتعليم والعمل الثقافي.
وقد طرحت هذه الرؤية الجديدة تساؤلات مهمة حول طبيعة العلاقة بين الثقافات في المنطقة، وهل هي تعايش سطحي؟ أم تفاعل حقيقي يمكن أن يشكل نموذجاً للتعددية في منطقة مزّقتها الصراعات القومية والدينية؟
خطوات عملية نحو ثقافة متعددة
في السنوات الأخيرة، أُنشئت عشرات المراكز الثقافية في مدن وبلدات إقليم شمال وشرق سوريا، بعضها يتبع للإدارة الذاتية الديمقراطية، وأخرى أنشأتها منظمات مجتمع مدني، وتعمل على تنظيم نشاطات فنية وأدبية وموسيقية باللغات الرئيسية الثلاث “الكردية والعربية والسريانية”.
وفي مدينة قامشلو، كمثال، تُنظّم فعاليات مشتركة تضم فنانين وشعراء من خلفيات متنوعة، وأحياناً تُلقى القصائد بثلاث لغات، في مشهد كان نادراً في المنطقة، كما تقام في الأعياد القومية للشعوب مهرجانات ثقافية كـ “أكيتو” و”نوروز” و”الأربعاء الأحمر” وتشارك فيها وفود من مختلف الشعوب، ما يعكس حالة تفاعل اجتماعي وثقافي آخذة في التوسع.
هذا وقد أقيمت العديد من المهرجانات الثقافية والأدبية المتنوعة التي يطغى عليها طابع ثقافات الشعوب في المنطقة كما كان هناك فرق خاصة بكل شعب تعرض فلكلوره وثقافته.
التعليم واللغة اعتراف بالتنوع
يُعدّ إدخال اللغات الكردية والسريانية إلى مناهج التعليم “التعلم باللغة الأم” خطوة بالغة الأهمية، خصوصاً أنها جاءت بعد عقود من التهميش والمنع، ورغم أن تطبيق هذا النظام ما زال يواجه تحديات، إلا أنه يُعدّ أحد أبرز أوجه الاعتراف بالهويات الثقافية. كما أن اللغة العربية والكردية، إلى جانب أنهما لغة شعوب أساسية، ما زالتا تحتلان مكانتهما لغة مشتركة، تُستخدمان في التواصل اليومي والإداري، وهو ما يحافظ على الرابط المجتمعي العام. وقد شهدت الساحة الفنية في الفترة الأخيرة تنوعاً لغوياً ملحوظاً إلا أنها مازالت تعاني ضعفا في اللغة السريانية فلا نجد كتاباً وشعراء سريان يشاركون بلغتهم الأم، في الندوات والفعاليات المشتركة.
تعددية في الخطاب وآفاق مستقبلية
وتبنى الإعلام الديمقراطي في إقليم شمال وشرق سوريا التعدد اللغوي، وبعض القنوات والإذاعات تبث حالياً بلغتين أو أكثر، وهناك منصات تنشر مقالات وتقارير بثلاث لغات هذه الخطوة تسهم في تعزيز التفاهم بين الشعوب، وتتيح للجميع الاطلاع على قضايا الآخر بلغته.
ورغم أن بعض وسائل الإعلام لا تزال تعمل بفضاءات قومية مغلقة، إلا أن هناك وعياً متزايداً بالحاجة إلى إعلام يعكس التعددية لا يعمّق الفواصل.
لا يمكن إنكار أن مظاهر الانعزال الثقافي لا تزال موجودة في بعض المناطق، بفعل عوامل تاريخية واجتماعية وأحياناً سياسية. لكن بالمقابل، ما تحقق من خطوات إيجابية في مجالات التعليم والثقافة والإعلام، يشير إلى أن المنطقة تسير فعلياً نحو بناء نموذج من التعايش يقوم على التفاعل والتكامل.
تعزيز هذه المسيرة يتطلب دعماً أكبر لمشاريع الترجمة، والفعاليات المشتركة، وتوسيع الإعلام المتعدد اللغات، بما يضمن أن يعيش سكان إقليم شمال وشرق سوريا ليس فقط في جغرافيا واحدة، بل ضمن ثقافة واحدة تتسع للجميع.