الحسكة/ محمد حمود – تُعدُّ مقاطعة الجزيرة، قلب إقليم شمال وشرق سوريا الزراعي، وواحدة من أغنى المناطق بالموارد الزراعية في البلاد، لكنها اليوم تواجه أزمة زراعية غير مسبوقة، تُفاقمها موجات الجفاف المتتالية، نقص المياه، والسياسات المائية الجائرة لدولة الاحتلال التركي.
تشهد مقاطعة الجزيرة، وبالأخص مدينة الحسكة، تراجعاً حاداً في الإنتاج الزراعي بسبب الجفاف المستمر منذ عام 2020، والذي وُصف بأنه الأسوأ منذ 70 عاماً.
انخفض إنتاج المحاصيل الاستراتيجية مثل القمح والشعير بنسبة تزيد عن 80% مقارنةً بعام 2020، وتحولت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية إلى أراضٍ جافة، مما أثّر على الغطاء النباتي والثروة الحيوانية.
كما أدى نقص الأمطار إلى زيادة تكاليف الري، حيث اضطر المزارعون إلى تشغيل مضخات الري لساعات أطول، مما رفع تكاليف الوقود والإنتاج.
ومع تراجع إنتاجية الأراضي، لجأ البعض إلى تأجير حقولهم كمراعي مؤقتة لمربي الأغنام، بأسعار تتراوح بين 15 و50 ألف ليرة سوريّة للدونم الواحد.
مربو المواشي لم يسلموا من الأزمة، إذ اضطروا إلى بيع جزء من قطعانهم أو شراء الأعلاف بأسعارٍ مرتفعة بعد فشل زراعة الشعير المخصص للأعلاف.
ومع تقلّص المراعي الطبيعية، امتدت الأراضي الجرداء في مناطق كانت خضراء يوماً ما، مما زاد من التصحر وفاقم التحديات البيئية.
ووفقاً للمؤشر العالمي لمخاطر الصراع، أصبحت سوريا الدولة الأكثر عُرضة للجفاف في منطقة البحر المتوسط، مع تحذيرات من الأمم المتحدة بأن الأزمة ستزداد سوءاً، مما يهدد تأمين المياه الصالحة للشرب لملايين السوريين.
إضافةً للقمح والشعير.. القطن يفقد بريقهُ
يُعدُّ القطن من المحاصيل الاستراتيجية في الجزيرة، حيث تُستخدم أليافه في صناعة الملابس وبذوره لاستخراج الزيت، لكن الجفاف المتزايد جعل زراعته تحدياً كبيراً، إذ يتطلب الري أكثر من 12 مرة خلال الموسم الصيفي.
هذا العام، وإضافةً إلى الموسم الشتوي الذي “انتهى” وفق تعبير المزارعين؛ فإنهم قلّلوا المساحات المزروعة بالقطن – الموسم الصيفي – خوفاً من تكرار خسائر العام الماضي، بينما تخلى آخرون عن زراعته بالكامل.
وبحسب هيئة الزراعة في مقاطعة الجزيرة، تبلغ مساحة الأراضي المرخصة لزراعة القطن في الموسم الصيفي الحالي 375 ألف دونم، لكن لا توجد إحصائيات دقيقة عن المساحات المزروعة فعلياً هذا العام.
“الأرض عطشى وجيوبنا فارغة”
“ناهد المجدل”، مزارع يمتلك أرضاً كان يزرع فيها القمح والقطن، لكن هذا العام، اضطر إلى التخلي عن زراعة القطن بسبب نقص المياه وارتفاع تكاليف الري.
يقول المجدل: “كنا نعتمد على مياه الأمطار، لكن منذ ثلاث سنوات والسماء بخيلة. اضطررنا لحفر بئر ارتوازي، لكن المياه قليلة والتكاليف مرتفعة. كل يوم نشغّل المضخة، نفقد آلاف الليرات على الوقود. العام الماضي، خسرنا، وهذا العام قررنا زراعة الشعير فقط، لكنه لم ينبت بالشكل المطلوب”.
يضيف المجدل بحسرة: “اضطررنا لتأجير أرضنا لمربي أغنام بـ20 ألف ليرة للدونم، هذا لا يكفي لتغطية ديوننا، لكن لا خيار آخر. أحياناً أنظر إلى الحقول الجافة وأتساءل: كيف تحولت أرضنا إلى صحراء؟ كنا نصدّر القمح والقطن، واليوم بالكاد نجد ما نأكله”.
يتحدث المجدل عن تأثير الأزمة على عائلته: “أبنائي كانوا يساعدونني في الحقول، لكنهم الآن يبحثون عن عمل في المدينة. لا أريد أن يتركوا الأرض، لكن ماذا نفعل؟ الأرض عطشى وجيوبنا فارغة. إذا استمر الجفاف، قد نضطر لبيع الأرض”.
“المواشي تموت والأمل يتلاشى”
أما “خضر سليمان”، مربي مواشي، لكنه اضطر لبيع القسم الأكبر منها هذا العام بسبب نقص الأعلاف وارتفاع أسعارها.
يروي سليمان: “زرعت 20 دونماً من الشعير لتأمين العلف، لكن الأرض لم تنبت إلا القليل. اضطررت لشراء الأعلاف من السوق بأسعارٍ خيالية، وهذا يعني إنني أخسر أكثر مما أربح. اضطررت لبيع جزء من القطيع لتغطية التكاليف، لكن حتى ذلك لم يكن كافياً”.
يتابع سليمان: “المراعي اختفت. كنت أستأجر أراضي المزارعين كمراعي، لكن هذا العام حتى هذه الأراضي جافة. أحياناً أشعر أنني أقاتل من أجل البقاء، لكن الأمل يتلاشى”.
يتحدث سليمان عن تأثير الأزمة على المجتمع المحلي: “كنا نعيش من الأرض والمواشي، لكن الآن لا نملك سوى الديون. إذا لم تتحسن الأمور، قد أضطر لبيع بقية القطيع والرحيل”.
“هذا العام قد تكون الخسارة أكبر”
فيما المزارع “إبراهيم الجمعة”، يمتلك أرضاً زراعية، كان يزرع فيها القمح والقطن، لكنه هذا العام قلّص المساحة المزروعة بسبب نقص المياه.
يقول الجمعة: “كنا نعتمد على مياه نهر الخابور، لكن النهر جف تقريباً. حفرنا بئراً بعمق 200 متر، لكن المياه قليلة ومالحة أحياناً. كل يوم أنفق مئات الآلاف على الوقود والصيانة، وفي النهاية الإنتاج لا يكفي لتغطية التكاليف. العام الماضي، خسرت الملايين، وهذا العام قد تكون الخسارة أكبر”.
يضيف الجمعة: “القطن كان مصدر رزقنا الرئيسي، لكن هذا العام لن أزرعه. يحتاج إلى ري مستمر، ولا نملك الموارد. أحاول زراعة الخضروات كبديلٍ، لكن حتى هذه المحاصيل تحتاج إلى مياه وأسمدة باهظة الثمن”.
يتحدث عن آماله المستقبلية: “نحتاج إلى دعم حقيقي. الإدارة الذاتية تحاول مساعدتنا، لكن الموارد محدودة. نحتاج إلى مشاريع ري مستدامة، مثل السدود الصغيرة أو قنوات الري. إذا استمر الوضع هكذا، ستتحول الجزيرة إلى صحراء، وسيغادر الجميع. أنا أحب أرضي ولا أريد تركها، لكن كيف أصمد وأنا أخسر كل شيء؟”.
نظرة إلى المستقبل.. تحديات وآمال
تواجه مقاطعة الجزيرة تحديات هائلة تهدد مستقبل الزراعة والثروة الحيوانية. الجفاف، نقص المياه، والسياسات المائية الجائرة لتركيا جعلت الحياة صعبة للمزارعين ومربي المواشي. ومع استمرار الأزمة، يتزايد خطر الهجرة من القرى إلى المدن أو خارج البلاد، مما يهدد النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمنطقة.
ومع ذلك، يحتفظ المزارعون ببصيص من الأمل. يطالبون بتدخّلات عاجلة، مثل إنشاء مشاريع ري مستدامة، توفير الدعم المالي، وتحسين إدارة الموارد المائية، كما يأملون في تعاون دولي لمواجهة الجفاف وتخفيف تداعياته.
في الجزيرة، الأرض ليست مجرد مصدر رزق، بل هي جزء من الهوية والتاريخ، والمزارعون مصممون على التمسك بها رغم كل التحديات.