صلاح الدين مسلم
لم تعد الرأسمالية مجرد نظام اقتصادي تقليدي قائم على السوق والإنتاج الصناعي، بل تحولت إلى منظومة رقمية معقدة تستند إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، ومنصات الإنترنت التي تُعيد تشكيل الاقتصاد والمجتمع. ما يُعرف اليوم بالرأسمالية الرقمية أو الرأسمالية الشبكية، أو رأسماليّة المنصّات، ليس مجرد تطور طبيعي للرأسمالية، بل هو نمط جديد من الهيمنة الاقتصادية والمعرفية، كما يشير العديد من المفكرين المعاصرين.
فهذا النموذج يمثل تحولًا من الرأسمالية الصناعية إلى ما تُسميه “رأسمالية المراقبة”، حيث تُحوَّل التجارب والسلوكيات الإنسانية اليومية إلى بيانات تُستخدم للتنبؤ والتحكم بها. ويشكّل هذا النموذج تهديدًا مباشرًا للحريات الفردية والديمقراطية، كونه يستند إلى مراقبة مستمرة وسرّية للسلوك البشري.
فالشركات الرقمية الكبرى مثل غوغل وفيسبوك… أصبحت تتصرف كبنى تحتية تحتكر آليات الوصول إلى الخدمات والأسواق، وأضحت منصات للإعلانات، والسلع، والبيانات، والعمل، وتستمد قوتها من قدرتها على جمع البيانات وتخزينها وتحليلها بكفاءة. يرى فرناند بروديل أن الرأسمالية ليست فقط نظامًا اقتصاديًا، بل ظاهرة تاريخية معقدة متجذرة في التاريخ البشري، إذ يُبرز كيف أنّ الرأسمالية تُمأسِس ذاتها ضمن بنى تحتية وسياسية وثقافية، وأنّ السوق الحرة ليست سوى الطبقة السطحية لاقتصاد أعمق تتحكم فيه القوى المالية والشبكات التجارية الكبرى. ومن هذا المنظور، يمكن فهم الرأسمالية الرقمية بوصفها امتدادًا معاصرًا لهذا النمط من التمركز والهيمنة، حيث تستبدل الشبكات المالية بشبكات البيانات والمنصات.
أما إيمانويل والرشتاين، فيقدم تصورًا للرأسمالية بوصفها نظامًا عالميًا مترابطًا يقوم على مركز وأطراف، وعلى علاقات تبادل غير متكافئة، والرأسمالية الرقمية، من هذا المنظور، تعمّق هذا التفاوت، حيث تتركز أدوات السيطرة التكنولوجية والبيانات في دول المركز، بينما تُستبعد بلدان الأطراف من الفعل التكنولوجي الحقيقي، لتصبح مجرد أسواق للاستهلاك الرقمي ومصادر للبيانات الخام. وعليه، فإن البعد التاريخي يتيح لنا تجاوز النظرة التبسيطية للرأسمالية الرقمية باعتبارها مجرد تطور تكنولوجي، لنفهمها كمرحلة جديدة من مراحل التوسع الرأسمالي العالمي، الذي يحتفظ بالبنية الجوهرية للاستغلال والهيمنة وإن تغيّرت أدواته.
يرى هابرماس أن هذا التحول يمثل تهديدًا جوهريًا للديمقراطية التشاركية، لأن النقاش لم يعد يدور بين مواطنين متساوين، بل داخل منصات تتحكم في من يرى ماذا، ومتى، وكيف؟ كما تُغذّي هذه المنصات الانغلاق المعرفي والاستقطاب، مما يقوّض إمكانات الفهم المتبادل والتوافق المجتمعي.
الرأسمالية الرقمية، بهذا المعنى، لا تهيمن فقط على الاقتصاد والمعرفة، بل تعيد تشكيل المجال العام ذاته، وتحوله إلى أداة في خدمة الربح والتوجيه السلوكي، بدلاً من أن يكون فضاءً للحوار العام الحر.
إن فهمنا للرأسمالية الرقمية يجب ألا يقتصر على رصد مظاهرها التقنية، بل ينبغي أن يتجه نحو تفكيك بنيتها المعرفية والسلطوية، والكشف عن آثارها على الإنسان والمجتمع والدولة، بما يتيح بناء مقاومات فكرية وسياسية وأخلاقية تواكب هذا التحول الجذري.