علي زاخراني
في زمنٍ كانت الحروب فيه لا تهدأ، والدماء تُراق لأتفه الأسباب، كانت هناك أربعة أشهر تعمّ فيها السكينة وتتوقف فيها سيوف الثأر والانتقام. كان العرب، رغم جاهليتهم، يعظّمون هذه الأشهر ويكفّون فيها عن القتال، لا تقديساً للحياة بقدر ما هو التزام بعادة موروثة من ملة إبراهيم عليه السلام، وعندما جاء الإسلام، لم يُلغِ هذا التعظيم، بل رفعه إلى مقام العبادة، وربطه بعقيدة التوحيد، فجعل الأشهر الحرم فُرصة للنفوس أن تتطهّر، وللمجتمعات أن تستريح من دوامة العنف، وللإنسان أن يتأمل في معنى الحياة وحرمة النفس والكرامة.
الأشهر الحرم، وهي “ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب”، ذكّرنا الله بها في كتابه الكريم بقوله: “إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فيهن أنفسكم”.
و”فلا تظلموا فيهن أنفسكم” ليست مجرد وصية، بل تحذير من أن المعصية في هذه الشهور ليست كغيرها، لأن الزمان له حرمته، كما أن المكان له حرمته. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: “في كلِّهنَّ، ثمَّ خصَّ منهنَّ أربعة فجعلهنَّ حُرُمًا، وعظَّم حُرماتهنَّ، وجعل الذنبَ فيهنَّ أعظم، والعملَ الصالح والأجرَ أعظم”.
وليس عجيباً أن يرتبط الحديث عن الأشهر الحرم بالحديث عن النفس البشرية وحرمة الدماء، إذ إن أعظم ما يُصان في هذه الشهور هو دم الإنسان وكرامته. فقد قرر الإسلام حرمة النفس منذ اللحظة الأولى لنزول الوحي، وجعلها من مقاصد الشريعة الكبرى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم النحر، أمام آلاف الحجاج: “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا”. وفي هذا المشهد الجليل، اجتمع الزمان (يوم النحر)، والمكان (مكة)، والمناسبة (الحج)، ليؤكد النبي صلى الله عليه وسلم أن حرمة النفس ليست عرضة للتفاوض، ولا مجال فيها للهوى أو العصبية.
ولم تقف عظمة الإسلام عند حفظ الدم فقط، بل امتدّت لتشمل العرض، الذي هو مرآة كرامة الإنسان. فالطعن في الأعراض ليس فقط ظلماً، بل هو هدم لأسس المجتمع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.” فكم من كلمة نُطقت في مجلس غيبة، فكانت سبباً في خراب بيت، أو فتنة بين إخوة، أو انكسار قلب لا يُجبر. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: “لا تجد المؤمن كذّاباً، ولا نمّاماً، ولا لعّاناً، ولا طعّاناً في أعراض الناس”. ففي الأشهر الحرم تتجلى دعوة السماء للبشرية أن تراجع نفسها، أن تنظر إلى من حولها لا بعين الخصومة، بل بعين الرحمة. أن تمسك لسانها عن التجريح، ويدها عن الأذى، وقلبها عن الحقد، إن تعظيم الأشهر الحرم ليس عبادة موسمية، بل هو تدريب سنوي على السلم والسكينة والاحترام، ليبقى الإنسان كريماً في نظر الله، وإن خذلته الأرض.
وهكذا، فإن من تأمل هذا التشريع الرباني، أدرك أن حرمة الزمان جاءت لتؤكد حرمة الإنسان. وأن الشهور التي تتوقف فيها السيوف، يجب أن تتوقف فيها أيضاً الألسنة عن الطعن، والقلوب عن الحسد، والنفوس عن الظلم، فالأشهر الحرم ليست مجرد تواريخ على التقويم، بل محطات تربوية تهذب الضمير، وتوقظ الروح من غفلتها، وتدعو المجتمع أن يعيش في ظلّ سلامٍ لا تقطعه شهوة الانتقام، ولا يلوّثه أذى اللسان أو اليد.
نسأل اللهَ سبحانه أن يجعلنا من المعظِّمين لهذه الأشهر، وأن يعيننا فيها على ذِكْره وشُكره وحُسن عبادته، ونعوذ به سبحانه أن نكون فيها من الغافلين، وصلى اللهُ وسلم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.