صلاح الدين مسلم
في لحظات التحوّل الحاسمة من عمر التاريخ، عندما تنهار الأنظمة وتتآكل الحدود المصطنعة، يخرج من قلب الرماد صوت لا يمكن تجاهله. إنه صوت الإنسان الباحث عن كرامته، لا في شعارات الدولة، بل في تفاصيل الحياة اليومية، في الحقول التي يفلحها بيديه، وفي الأرض التي صارت امتدادًا لروحه. في هذه اللحظات، لا تعود القوة في فوهة البندقية، بل في صدق الفكرة، وفي مشروعٍ اسمه: الأمة الديمقراطية.
لم تكن هذه الأمة وليدة طموحات نخبٍ سياسية، ولا ترفًا فكريًا في كتب الفلاسفة، بل نبتت من جذور مجتمعٍ طبيعي، عريق، متجذر في التعدد والتكافل. الكرد هم أبناء هذا المجتمع الديمقراطي الأيكولوجي، المجتمع النيولوتي الذي لم يعرف التسلط، بل عاش الشراكة، والانسجام مع الطبيعة، والاحترام العميق لكرامة الإنسان. هم ليسوا ممّن يدّعون الديمقراطية، بل ممّن يعيشونها ممارسةً وتقاليد، منذ آلاف السنين.
من حسن حظ هذا الشعب أنّ التاريخ أنجب له مفكرًا لا يُقاس بحجم موقعه السياسي، بل بعمق رؤيته الإنسانية، والاستراتيجية، مفكرًا لا يختزل الهوية في العرق، ولا العدالة في الانتماء، بل يراها في إنسانية الإنسان أولًا. لقد استطاع القائد عبد الله أوجلان أن يؤسس لبنية ديمقراطية ليست قائمة على رد الفعل، بل على القانون، والتفكير المستقبلي، والتوازن بين الإنسان والطبيعة. حمل وعيًا يتجاوز حدود القومية الضيقة، ووضع الأساس لأخلاقية سياسية جديدة.
لم تأتِ لحظة الحقيقة من رحم الانتصارات العسكرية، بل من خلال صمود الناس في الشوارع والقرى، من خلال المعلمات اللواتي فتحن أبواب المدارس في عزّ الحرب، ومن خلال النساء اللاتي تحوّلن من ضحايا النظام الذكوري إلى شريكات في القرار والميدان. لقد سقطت جدران الخوف حين قررت الشعوب أن تكتب مصيرها بأيديها، وأن تقاوم لا باسم الكراهية، بل باسم الحياة.
في روج آفا، وفي جبال قنديل وغارى وحفتانين، وفي كل بقعةٍ ارتفعت فيها راية الأمة الديمقراطية، تغيّر معنى السياسة. أصبحت السياسة شأناً شعبياً، والمجتمع ذاته هو من يُنتج القوانين، ويُقيّم أداء المؤسسات. لم تعد المرأة على هامش المشهد، بل في قلبه، ولم تعد الثقافة تُقمع، بل تُحتفى بها، بكل لغاتها وألوانها.
واليوم، بينما يصمت أزيز الرصاص، يرتفع صوت الحقيقة. الحقيقة التي تقول: لم ننتصر لأننا أقوى، بل لأننا أصدق، بل لأنّنا أصحاب هوية وإرادة، لأننا نملك مشروعًا للحياة، لا للسلطة. أولئك الذين نعتوهم بـ”الحالمين”، صاروا اليوم يغيّرون الجغرافيا، لا بالخرائط، بل بالوعي.
لذا، حين نرفع رايات السلام، لا بد أن نستحضر شهداءنا، وحناجر الأمهات، وأفكار القادة الذين ما زالوا خلف القضبان، ولكنهم أكثر حرية من كثيرٍ من الحاكمين. أفكارهم تبني، وتلهم، وتمنح الشعوب القدرة على الحلم، مجددًا، بوطنٍ لا تُقاس قيمته بحجمه، بل بعدالته.