إيمان العليان
منذ تأسيسه في عام 1978 على يد القائد عبد الله أوجلان، لم يكن حزب العمال الكردستاني مجرّد تنظيم كردي يسعى لاستقلال قومي ضيق، بل كان منذ البداية مشروعًا فكريًا وأخلاقيًا يُراد له أن يكون ثورة على الظلم والاستبداد، ليس للكرد وحدهم، بل لكل الشعوب والمكونات التي تعاني من القهر في الشرق الأوسط.
من هذا المنطلق، تبنّى الحزب قضايا “العرب، والسريان، والكلدان، والأرمن، والتركمان، والشركس، والفرس، والآشوريين” وكل مكونات المجتمع التي عاشت تاريخيًا في هذه الجغرافيا المتعددة. لقد كانت رؤية القائد “أوجلان” واضحة منذ اللحظة الأولى، وهي أن “الحرية لا تكتمل إذا لم تشمل الجميع” والنضال لا يكون نزيهًا إن اقتصر على فئة دون سواها.
انطلقت مقاومة الحزب ردًا على سياسات الإبادة الثقافية التي استهدفت الشعب الكردي، لكن سرعان ما تطوَّر المشروع ليصبح مدرسة فكرية تطمح لبناء نموذج جديد للعيش المشترك، لا يقوم على التفوق القومي أو الطائفي، بل على المساواة التامة بين كل المكونات. وقد تجسَّدت هذه الرؤية بأوضح صورها في تجربة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، حيث باتت الشعوب تتشارك القرار السياسي والإداري والأمني، دون أن تطغى هوية على أخرى، أو يُقصى مكوّن لحساب مكوّن آخر.
لقد لعب حزب العمال الكردستاني دورًا كبيرًا في بناء هذه الثقافة الجديدة، عبر دعمه للمشروع الديمقراطي وتقديمه لتجربة رائدة في التنظيم المجتمعي والحكم الذاتي، ومن خلال مساهمته في تشكيل قوات الحماية التي دافعت عن الشعوب ضد هجمات الإرهاب، خصوصًا في المعارك المصيرية ضد داعش.
ورغم أن الحزب قد دُفع في بدايته إلى خوض العمل المسلح نتيجة غياب أي أفق سياسي، فإن بوصلته لم تفقد اتجاهها، وظلّ هدفه الأسمى هو تأسيس سلام حقيقي وشامل، لا سلام قائم على القمع والهيمنة.
اليوم، وبعد سنوات طويلة من النضال المسلح، أعلن حزب العمال الكردستاني، في مؤتمره الأخير (الثاني عشر)، عن تحوّل تاريخي مفصلي في مساره، معلنًا انتهاء مرحلة الكفاح المسلح وبدء مرحلة جديدة تقوم على العمل السياسي والحوار والانخراط المدني. هذا القرار لم يكن خطوة تكتيكية أو مجرّد مراجعة مؤقتة، بل كان ترجمة عملية لرؤية القائد “عبد الله أوجلان” التي ظل ينادي بها منذ سنوات من داخل محبسه، وهي أن “الشرق الأوسط لا يُبنى بالسلاح، بل بالعقل والحوار والتفاهم بين مكوناته كافة”.
القائد عبد الله أوجلان لطالما رأى أن الكفاح يجب أن يكون لأجل الإنسان أولًا، بغض النظر عن انتمائه القومي أو الديني، وأن السلام لا يتحقق إذا اقتصر على طرف واحد دون غيره.
من هنا، فإن القرار التاريخي الذي اتخذه الحزب لا يُمثل فقط نهاية مرحلة بالنسبة لأعضائه أو للمجتمع الكردي، بل هو بداية مرحلة جديدة لكل الشعوب التي تعيش في شمال وشرق سوريا، وفي عموم الشرق الأوسط. إنه نداء للسلام يشمل العرب والكرد والسريان والأرمن وكل الشعوب التي أنهكتها الحروب والحصار والصراعات.
وفي واقعٍ يتآكل فيه الأمل بفعل الانقسامات والاقتتال، جاء إعلان حزب العمال الكردستاني ليمنح شعوب المنطقة نموذجًا جديدًا في التحوّل والنضج السياسي. فأن ينتقل حزب بهذه الخلفية النضالية من السلاح إلى السياسة، معناه أنه أدرك أن الزمن قد حان لصياغة مشروع السلام من الداخل، لا عبر التنازلات، بل عبر إعادة تعريف النضال بما يخدم جميع الشعوب. هذا التحول يحمل في طياته دلالات عميقة، فهو رسالة إلى الحكومات في المنطقة بأن الحلول الأمنية والعسكرية لم تعد مُجدية، وأنه لا بديل عن الحوار السياسي. كما أنه رسالة إلى الشعوب، بأن التغيير الحقيقي لا يأتي من الخارج، بل من وعي جماعي يُعيد بناء الثقة بين الشعوب، ويُنتج نُظمًا ديمقراطية محلية تقوم على احترام التنوع والعدالة.
تجربة شمال وشرق سوريا خير دليل على إمكانية تعايش “العرب والكرد والسريان وسائر الشعوب الأخرى” معًا ضمن نموذج لا مركزي، يحفظ الحقوق ويصون الحريات. وإن قرار حزب العمال الكردستاني الأخير هو امتداد طبيعي لهذا النموذج، ويمنحه دعمًا سياسيًا وأخلاقيًا قويًا، ويؤكد أن هذا النموذج لم يكن مؤقتًا أو طارئًا، بل نابع من فلسفة سياسية عميقة تؤمن بأن مستقبل الشرق الأوسط يُبنى من القاعدة إلى الأعلى، لا العكس.
إن الخطوة التي اتخذها الحزب، بتوجيه مباشر من القائد أوجلان، ليست مجرد مبادرة حزبية، بل لحظة نضج إقليمي. فهي تُعيد الاعتبار للعمل السياسي، وتفتح الأبواب أمام فكر “الأمة الديمقراطية” ليكون بديلاً عن مشاريع التفتيت والاستبداد، وهي دعوة صريحة لكل الشعوب أن تنخرط في هذه المرحلة، لأنها ليست حكرًا على الكرد أو أعضاء حزب العمال الكردستاني، بل هي دعوة جماعية لبناء السلام المشترك على قاعدة الحرية والمساواة والعدالة.
وبذلك، لا يمكن النظر إلى هذا التحول إلا كخطوة شجاعة وتاريخية تمهد الطريق لإرساء سلام شامل يستفيد منه جميع من عاش تحت وطأة التهميش أو عانى من الإقصاء والصراع، إنه إعلان لمرحلة جديدة من الوعي، تتطلب مسؤولية مشتركة من كل الشعوب لترسيخ مفهوم سياسي جديد للعيش المشترك في هذه الأرض المعقدة.
إنها بداية جديدة… ليست لحزب واحد، ولا لقومية واحدة، بل لكل من يؤمن بأن الحرية لا تُختزل في البندقية، وأن الكرامة الحقيقية تتحقق حين ينصت الجميع لبعضهم البعض، وتُبنى الجسور بدل الجدران.