د. يونس بهرام
تتجلى الأحداث الحالية في سوريا كنقطةِ التقاء حاسمة بين القوى السياسية والعسكرية والاقتصادية في المنطقة، لا سيما في أعقاب حملة الباغوز وانتصار قوات سوريا الديمقراطية عسكرياً على الدواعش، التي شهدت فترة هدوء قصيرة. هذه الهدنة قد تكون مؤقتة، حيث بدأ الكرد في التطلع إلى تعزيز مواقعهم في جبهة جديدة تمتد من عفرين إلى البحر الأبيض المتوسط، بمحاذاة من القرى الكردية في جبل الأكراد. هذا التحرك أثار حفيظة القوى الكبرى، خاصةً روسيا التي رأت فيه تهديدًا لمشاريع الغاز الاستراتيجية في المنطقة، مثل مشروع نابوكو للغاز وشركة غاز بروم الروسية، والتي كانت تسعى لنقل غاز الخليج وكردستان عبر روج آفا إلى أوروبا عبر المتوسط.
مع تصاعد هذه التحركات، جاءت صفقة بين روسيا وتركيا سمحت بموجبها موسكو للجيش التركي باستخدام المجال الجوي السوري لتنفيذ ضربات ضد الكرد في عفرين، هذه الخطوات العسكرية، وعلى رأسها الهجمات التركية على مطار التيفور العسكري في منطقة تدمر، تكشف عن استراتيجية طامعة لأنقرة تهدف إلى تعزيز نفوذها العسكري والاقتصادي في سوريا، في سياق الفراغ السياسي الذي أحدثه هروب بشار الأسد وسقوط النظام. تركيا تتبنى سياسة “النيو عثمانية” التي تهدف إلى استعادة نفوذها في المنطقة.
أهمية مطار التيفور.. أبعاد استراتيجية متعددة
سوريا تشهد صراعًا على النفوذ في مناطق استراتيجية، وأحد أبرز هذه المناطق هو مطار التيفور العسكري في تدمر. تركيا التي تسعى إلى فرض هيمنتها على سوريا عبر إنشاء أكثر من مائة قاعدة عسكرية، تعتبر مطار التيفور نقطة مفصلية في هذا المسعى. ومع ذلك، يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا: لماذا اختارت تركيا هذا الموقع تحديدًا رغم قدرتها على الاستيلاء على نقاط أخرى؟ ولماذا سارعت إسرائيل إلى مهاجمة المطار بشكل مكثف بعد الحديث عن تعزيز الوجود العسكري التركي في المنطقة؟
بالنسبة لتركيا، تذهب مصالحها في مطار التيفور أبعد من الأبعاد العسكرية لتشمل البُعد الاقتصادي. تخشى أنقرة من أن الكرد قد يسيطرون على هذه المنطقة الاستراتيجية ويستخدمونها لأغراض اقتصادية، خصوصًا في مجالي النفط والغاز. كما يشكل الموقع تهديدًا للأمن التركي، لا سيما فيما يتعلق بتصدير النفط والغاز عبر الأنابيب، فضلًا عن تهديده لوحدة تركيا الإقليمية في ظل التوسع الكردي.
التهديدات الاقتصادية.. نفط العراق ومساراته عبر سوريا
إلى جانب البُعد العسكري، يمثل الجانب الاقتصادي للصراع على مطار التيفور عاملًا بالغ الأهمية. في الماضي، كان خط أنابيب كركوك – طرابلس يمثل شريانًا حيويًا لنقل النفط العراقي عبر الأراضي السورية إلى البحر الأبيض المتوسط. كانت المحطات على هذا الخط، مثل محطة التيفور، توفر طاقة تصدير آمنة للنفط العراقي، وهو ما استفادت منه القوى الاستعمارية مثل الفرنسيين والبريطانيين، لكن بعد تأميم النفط في العراق وتدهور العلاقات مع شركات النفط الأجنبية، تم إغلاق هذا الخط.
اليوم، ومع تراجع السيادة السوريّة، تسعى تركيا إلى تعزيز سيطرتها على مناطق حيوية مثل مطار التيفور لضمان استمرار نفوذها العسكري والاقتصادي في المنطقة. إذا تم تصدير النفط عبر سوريا بدلًا من تركيا، فإن ذلك سيقلل من أهمية خط الأنابيب الذي يمر عبر الأراضي التركية، مما سيؤثر سلبًا على إيرادات تركيا من رسوم المرور والتصدير.
التدخّلات الإسرائيلية.. منع المنافسة على النفوذ
في خضم هذا الصراع، لم تكن إسرائيل بعيدة عن مسرح الأحداث، فإسرائيل سعت إلى تدمير مطار التيفور في حرب الأيام الستة، وذلك لضمان عدم استفادة أي طرف آخر من هذه المنشأة الاستراتيجية، وعندما بدأت تركيا الحديث عن تعزيز وجودها العسكري في المنطقة، سارعت إسرائيل إلى قصف المطار بشكلٍ مكثف، ما يعكس المنافسة المستمرة بين القوى الكبرى في المنطقة على النفوذ والسيطرة على هذه النقاط الحيوية.
مطار التيفور.. نقطة التقاء النفط والجغرافيا والسياسة
مطار التيفور هو أكثر من مجرد قاعدة عسكرية؛ إنه يمثل نقطة تلاقي بين النفط والجغرافيا والسياسة. مع تزايد المصالح الدولية في سوريا، أصبحت هذه المنطقة محط اهتمام القوى الكبرى مثل تركيا، إسرائيل، روسيا، وإيران. من خلال السيطرة على هذا الموقع، يمكن لأي طرف التحكم في مسارات النفط والغاز، مما يتيح له تأثيرًا كبيرًا في الاقتصاد الإقليمي والعالمي.
كُرد سوريا.. هل يُدرِكون أهمية مطار التيفور؟
وسط هذا الصراع، يبرز سؤال مهم: هل يدرك الساسة الكرد في روج آفا وجنوب كردستان وسلطة “جولانستان” في دمشق أهمية مطار التيفور؟ إن الكرد الذين يسعون إلى تعزيز مناطقهم ذات بإدارة ذاتية أو حتى تحقيق استقلال سياسي، قد يجدون أنفسهم في مواجهة مع تركيا التي تسعى إلى تقليص فرصهم في السيطرة على هذا الموقع الاستراتيجي.
في ظل التصعيد التركي في المنطقة، قد يكون من الصعب على الكرد تحقيق هذه الأهداف بدون دعم دولي قوي. إلا أن ما يظل واضحًا هو أن مطار تيفور يمثل نقطة محورية في الصراع على النفوذ في سوريا. فبالنسبة لتركيا، يمثل هذا الموقع حائط صد أمام الطموحات الكردية ويشكل جزءًا من استراتيجيتها العسكرية والاقتصادية لضمان استمرار نفوذها في المنطقة.
يظل مطار التيفور في قلب الصراع السوري، حيث تتشابك المصالح العسكرية والاقتصادية للقوى الإقليمية والدولية، وتستمر تركيا في محاولاتها لتعزيز سيطرتها على هذا الموقع الاستراتيجي، بينما تحاول إسرائيل تقويض هذه الطموحات. في المقابل، يظل الكرد في موقف حساس ومفصلي، حيث يسعون إلى تعزيز مواقعهم في هذه المنطقة الحيوية، وسط تنافس مستمر على النفوذ والسيطرة.