لمعان شيخو (عضوة منتدى حلب الثقافي)
تعيش المجتمعات اختلافاً في الرؤى والمعتقدات إزاء الفكر والمعتقد الديني، وغالباً ما يحدث انقساماً بين الأفراد، أي يتبنّي كل فرد معتقداً معيناً، ليصبح له الأساس في ديمومة حياته الاجتماعية والدينية. لكن، رغم تلك الانقسامات بين شرائح المجتمع الواحد، لطالما عاشت تلك المجتمعات بسلام فيما بينها، وحددت سُبل وطريقة حياتها المستقبلية دون ظهور أي خلل أو تناقضات بينها، غير أن مطلع القرن العشرين شهد انقسامات طائفية في عددٍ من الدول، أحدثت شرخًا واسعاً في منظومة الحياة الأمنية والسياسية والاجتماعية، وأدت إلى مواجهات مسلحة بين أبناء الوطن الواحد، أودت بحياة الكثيرين تحت مسمّى “حرب الطائفية”.
الإنسان لا يختار دينه أو عِرقه، فهو يرِثه من والديه، ويتشرّب تعاليمه على مرِّ السنوات، فالطائفية، بمفهومها الصحيح، تعني (جزءاً من الكل) دون أن ينفصل عنه، أي الانتماء لطائفة معينة دينية أو اجتماعية، ولكن ليست عرقية، فمن الممكن أن تجتمع عدة قوميات في طائفة واحدة، رغم اختلاف أوطانها أو لغاتها.
وقد تأتي مجموعة أو شخص يمتلك أفكاراً ومعتقدات سياسية، يعمل على دمجها مع الدين للتأثير على المجتمع أو الفرد من منطلق الروحانية، ما يجعلهم يتعصبون لمبادئ ومعتقدات سياسية ذات غطاء ديني، وبمجرد دخول الإنسان في طور التعصب، يبدأ ببناء إيمانه بمذهبه، وينعكس سلوكه ليصبح عدائياً تجاه أي جهة دينية أخرى، مذهبية، عرقية، اجتماعية، اقتصادية، أو سياسية، تناهض أفكار ومعتقدات الطائفة التي ينتمي إليها الفرد أو مجموعة من الأفراد.
فيعمل جاهداً على تصيّد أخطاء المذهب المضاد، وشيئاً فشيئاً ينسى تعاليم مذهبه وينشغل بالمذهب الآخر، يراقبه، يراجعه، ويحذر منه، وهكذا يتحوّل الإيمان إلى كراهية، والكراهية إلى عداوةٍ، والعداوة تستلزم القضاء على الآخر لضمان البقاء. فمن هنا تنشأ الطائفية (أي التعصب والتعنت)، وتصل إلى مرحلة القتل والعنف والتوحش، وهذا ما شهدته الساحة السورية مؤخراً، لمصالح سياسية تخدم فئة معينة هدفها السيطرة على السلطة، وذلك بالضرب على الوتر الحساس وإشعال فتنة الحرب، من خلال إلغاء الآخر، وبث مشاهد حيّة وتصويرية تُظهر كيفية قتل الإنسان لأخيه الإنسان، واعتباره واجباً بحجة الدين أو الطائفة أو العِرق، وهي أسباب تقع خارج نطاق الأخلاق الإنسانية، وأصبحت ورماً يصعب استئصاله. (مجازر الساحل مثال صارخ). رغم أن المجتمعات الغربية، بتنوع أعراقها وأديانها، تخلصت من هذه الآفة ونهضت وتحضرت، لا نزال نحن نخوض في هذا المستنقع المُمنهج، ويعتقد، كل منّا، أن طائفته الطرف الناجي والمنصور، وإذا بقينا متمسكين بثقافة الفرقة الطائفية، فكلنا خاسرون في النهاية، فلا يوجد مذهب ديني أو طائفة تمتلك الصواب المطلق، والعكس صحيح، إنما هناك نقاط بيضاء عند هذا المكون أو ذاك، تكثر أو تقل عند كل طرف.
الهوية الوطنية الجامعة
أشار القائد والمفكر الكردي عبد الله أوجلان في مجلده الضخم “من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية” إلى أهمية دور المجتمع الديمقراطي (المجتمع المدني) في إدراج المؤسسات الدينية ضمن صلاحياته، بحيث لا تكون تابعة للنظام الحاكم، حتى لا تُستخدم طائفياً في الصراعات السياسية من جهة، ولا تعمل على لعبة التناحر فيما بينها، كما تفعل الأنظمة الحاكمة، وبالتالي، تتكون مؤسسة دينية من المراجع المختلفة لكل الطوائف، تعمل على نبذ السلوك الطائفي التعصبي، وتتوقف نغمة التكفير والهرطقة من طائفة ضد أخرى.
فالهوية في دولة ما تتجلى في سمات تميزها عن سواها، وانتماء أبناء الوطن جميعهم إليها، والاعتزاز بها، كالموقع الجغرافي، والتاريخ المشترك، والعملة المشتركة، والعلم، والحقوق ذاتها، والواجبات عينها، مما يجعل الجميع خاضعين لقانونها العام ومدافعين عن أرضها، وإذا تشتتت هذه السمات، انهارت الوحدة الوطنية، وغدونا شعوباً لا شعباً واحداً.
فالدراسات والأبحاث عبر التاريخ تؤكد أن لكل جماعة هوية توضح خصائصها التاريخية والاجتماعية والدينية وتعبّر عنها، ولكن في الدولة المؤلف شعوب متعددة، عندما تُمنح هوية ترمز لشعب واحد فقط، يؤدي ذلك إلى ضعف الانتماء، وهو ما يشكل عقبة تعرقل تحقيق المشروع الوطني واستقرار الدولة والمجتمع، والمأساة التي يمر بها الشعب السوري، والتناحر الطائفي القبيح، هما نتيجة فشل النظام الحاكم وتدخّل الأجندات الخارجية. ونحن في سوريا، إن بقينا نتصارع كمتدينين وعلمانيين، وطائفيين وقوميين، فلن نصل إلى بناء وطن يحتضن الجميع.
لذلك؛ يجب علينا التحلّي بالوعي والحكمة، وتجاوز حرب الطائفية، والعبور من سلوكها اللا إنساني واللا وطني، والتخلص من بقائنا أداةً للأطراف المتصارعة على حساب أبنائنا وشعبنا وأرضنا، وهذا يحتاج إلى عمل دؤوب تقوم به النخب المثقفة، لترسم خارطة العبور نحو وطن المواطنة، ويعمل سياسيو وحقوقيو هذا الوطن على تحويلها إلى استراتيجية عمل من خلال العمل على سنِّ قوانين، ليطمئن كل شعب، ويهجر تخوفه من الآخر، ليعيش الجميع بسلام وأمان، متجاوزين ثقافة الطائفية وسلوكها.
وبذلك يمكن الوصول إلى الحل عبر ثقافة المجتمع المدني التي تُذيب هذه الفوارق والمشاحنات الطائفية عندما تُوضع مناهج حديثة ذات سياسة إنسانية مواطنية، وتولد معها ثقافة المجتمع المدني والفكر الحر، وسيادة القانون، وهذا ما نادى به فيلسوف التنوير الأمريكي “توماس بين” عند كتابة دستور أمريكا قائلاً: “عندما تطرق النهضة باب أمة من الأمم، تسأل: أهنا فكر حر؟ فإن وجدته دخلت، وإلا ستمضي”.
أخيراً، يجب علينا كسوريين أن نتفق على ثوابت متينة تبدأ بقبول الآخر، والتكاتف، وتحرير الأراضي المحتلة أولاً، ووقف التبعية العمياء للرموز السياسية والدينية ثانياً، ونبني معاً وطننا بالمحبة و القيم الإنسانية، بدلاً من الاختلاف والعداوة المقيتة، كما عاش أجدادنا بعيداً عن العفن الطائفي، وعلى الأسرة والمؤسسات التعليمية أن تربي الأبناء وتعلمهم على مفاهيم الأخلاق والتمسك بها، فصاحب الأخلاق يصعب أن يحمل كراهية أو حقداً أو شراً، وإن الإنسانية توحد المجتمع المختلف والمتنوع وهي أساس التطور والتغير الإيجابي، وإعلاء قيمة الوطن والمجتمع.