الحسكة/ محمد حمود ـ روى “صالح الخلف وعلاء الدين حسين”، أحفاد الناجين من المجزرة الأرمنية عام 1915، قصصًا مُثقلة بألم الماضي المرير وصمود الحاضر الهش، تنسج حكاياتهما لوحة من التراجيديا العميقة، حيث يتردد صدى صرخات الأجداد الذين شهدوا الإبادة والتهجير، من مركدة إلى عامودا، تتجلى مأساة شعوب المنطقة التي عانت الظلم والخسارة، بين دموع الفقدان وذكريات البيوت المسلوبة، يتشبثون بأملٍ ضئيل لمستقبل يعيد لهم كرامتهم. وإنسانيتهم، رغم الجراح، وتنسج وحدة تتحدى قسوة التاريخ وتبحث عن عدالةٍ مفقودة.
من قلب شمال وشرق سوريا، حيث تتشابك أصوات الحياة اليومية مع أنين ماضٍ مروع، يروي صالح الخلف وعلاء الدين حسين، أحفاد الناجين من المجزرة الأرمنية عام 1915، قصصًا تنزف ألمًا وتراجيديا، وتتوهج في الوقت ذاته بصمودٍ لا ينكسر وأملٍ يتحدى اليأس.
من مركدة إلى عامودا، حيث تتردد أصداء الخسارات البشرية، تبرز إنسانية شعوب المنطقة نوراً في ظلام المأساة، بينما تقود الإدارة الذاتية الديمقراطية مسيرة التعايش نحو مستقبلٍ يعانق العدالة والوحدة.
مأساة لا تُمحى.. رحلة الموت والإبادة
يجلس صالح الخلف في ركنٍ متواضع من منزله في الحسكة، عيناه تحملان ثقل ذكريات لم يعشها بنفسه، لكنهما استقرت في روحه كإرثٍ من والده: “كان والدي طفلًا لا يتجاوز السنتين ونصف عام 1915، عندما ابتلعت المجزرة الأرمنية أحلام شعبنا”.
في تلك السنة، أطلقت الدولة العثمانية حملة إبادة منهجية للأرمن، بدأت باعتقال الشيوخ والعلماء والمثقفين من المناطق الغربية. نُقلوا إلى إسطنبول بحجة إصدار تعليمات أو عقد معاهدات، لكن الغدر كان مصيرهم: “ستمائة من خيرة أبناء شعبنا ذُبحوا كالخراف، لقد استهدفوا عقولنا وقلبنا النابض”.
فالشباب لم ينجوا من هذا الجحيم. جُندوا قسرًا في الجيش العثماني، لكن بدلاً من منحهم السلاح، أُلقوا في أعمالٍ شاقة كبناء الخطوط الحديدية: “كانوا عبيدًا في أرضهم، يُجلدون ويُهانون لأنهم مسيحيون”.
أما النساء والأطفال، فقد سُيقوا في مسيرات الموت، جموعٌ تتراوح بين مائتين وثلاثمائة إلى أربعمائة ألف إنسان، حفاة، جياع، ممزقون بالمرض والإرهاق، يسيرون بصحارى تركيا نحو الأراضي السورية: “كان الطريق مقبرة مفتوحة. الأمهات يشاهدن أطفالهن يسقطون جثثًا، والأطفال يبكون أمهاتهم اللواتي قضى عليهن الجوع”.
علاء الدين حسين، حفيدٌ آخر للناجين، يحمل الألم ذاته في قلبه: “سمعت من جدتي عن مسيرات الموت تلك. آلاف الأرمن سُيقوا كالقطعان نحو حتفهم. الجوع والعطش أزهق أرواح الكثيرين، لكن جنود العثمانيين أكملوا المهمة”.
في منطقة مركدة، بين الحسكة ودير الزور، أُلقي الضحايا في انهدام جبلي تحول اليوم إلى مزارٍ مقدس للأرمن: “كل عام، نزور مركدة، نقف هناك، نصلي، نبكي، لكننا نرفع رؤوسنا فخرًا بصمودنا”.
قصص النجاة.. ومضات إنسانية في قلب الظلام
وفي خضم هذه المأساة، أضاءت قصص إنسانية الدرب المظلم، حيث تذكر صالح الخلف، بعيونٍ ممتلئة بالامتنان، كيف أنقذ فلاح عربي والده وجدته وعمتّه في عامودا: “كان ذلك الفلاح بمثابة ملاكٍ أرسله الله. لولاه، لما كنت أحكي قصتي اليوم”.
لكن القدر لم يرحم الجميع، فعمته، التي كانت أكبر من والده، اختُطفت، وتلاشت آثارها كالسراب: “حتى اليوم، قلبي يعتصر ألمًا عندما أفكر بها. أين ذهبت؟ هل عاشت؟ هل ماتت؟”.
الفلاح، رغم فقره، احتضن والد صالح وجدته، لكنه لم يستطع توفير الرعاية الكاملة: “كان والدي يعمل في الحقول وهو لم يتجاوز العاشرة، يحمل همّ نفسه وأمه”، فعندما كبر، علم والده بوجود عمة له في حلب، حمل هدايا بسيطة، وكيس عدس، وقليل من الحمص، وبرغل، وسافر إليها، كأنما يحمل معه أمل العثور على شيء من ماضيه الممزق.
هناك، اكتشف أن عمه وعائلته نجوا على متن سفينة فرنسية إلى فرنسا، بعد سنوات، عاد عمه إلى سوريا، والتقى والد صالح في لحظةٍ عاطفية مزقت قيود الزمن: “كانا يتعانقان والبكاء يغرقهما، كأن السنوات لم تسرق منهما شيئًا”.
علاء الدين حسين يشارك صالح الخلف هذا الامتنان للعرب والكرد الذين فتحوا قلوبهم للأرمن: “أطفال أرمن كثيرون وجدوا ملاذًا في أحضان عائلات عربية وكردية، ربوهم كأبنائهم، وهذا الجميل لن ننساه”.
هذا الشعور يتجسد في المبادرات التي ينظمها الأرمن لتكريم العشائر التي احتضنتهم: “نجتمع بشيوخ العشائر، نشاركهم القصص، ونؤكد أننا عائلة واحدة”، أضاف علاء الدين حسين، وابتسامة خفيفة ترتسم على وجهه.
الإدارة الذاتية.. منارة الأمل وسط العتمة
وفي إقليم شمال شرق سوريا، حيث يعيش خمسة وعشرون ألف عائلة أرمنية، وجد الأرمن ملاذًا آمنًا تحت مظلة الإدارة الذاتية الديمقراطية، تحدث الخلف بحماسة عن دور الإدارة في حماية التنوع: “الإدارة الذاتية أعطتنا الحق في أن نكون أرمنًا بكرامة، هنا لا يهم إن كنت أرمنيًا أو عربيًا أو كرديًا، الجميع إخوة”.
هذا الانتماء يغذي حلمه بمستقبلٍ خالٍ من الاضطهاد: “أزرع الأمل في قلب أبنائي، ليعيشوا دون خوف”، أضاف بنبرةٍ تحمل عزيمة لا تلين.
وحسين يشاطر الخلف هذا الإيمان، مشيدًا بفكر القائد عبد الله أوجلان الذي ألهم الإدارة الذاتية: “فكر القائد عبد الله أوجلان يقوم على احترام الإنسان بغض النظر عن هويته، الإدارة الذاتية حوّلت هذا الفكر إلى واقع”.
وأضاف: “في إقليم شمال وشرق سوريا، نعيش كشعبٍ واحد، متحدين بالعدالة والمساواة”، هذا الدعم مكّن الأرمن من إحياء تراثهم، من خلال زياراتهم السنوية مزار مركدة، حيث يضعون أكاليل الزهور على أرواح الشهداء، ويجددون عهدهم بالصمود.
مستقبلٌ يتحدى الألم.. وحدة وتضامن
ورغم الجراح العميقة التي تركتها المجزرة، ينظر صالح الخلف وعلاء الدين حسين إلى المستقبل بعيونٍ تلتمع أملًا: “نحن لسنا مجرد ضحايا. نحن ناجون، ومن رماد المأساة بنينا حياة جديدة”، يقول صالح الخلف بفخر.
المبادرات التي ينظمها الأرمن، سواء بالمجلس الأرمني أو الجهود الفردية، تعكس هذا التحول. لقاءاتهم مع شيوخ العشائر ليست مجرد مناسبات، بل هي إعلانٌ عن وحدةٍ لا تُكسر. “هذه العشائر أعطتنا الحياة. هم أهلنا، وجميلهم محفور في قلوبنا”.
علاء الدين حسين اختتم حديثه برسالةٍ تحمل الأمل والتحدي: “مركدة هي جرحنا، لكنها أيضًا شاهدة على قوتنا، مع الإدارة الذاتية، نبني غدًا يحتضن الجميع”، هذه الرؤية تنعكس في حياة الأرمن اليوم، حيث ينسجون خيوط مجتمعٍ متنوع، متحدون بقيم التضامن والعدالة.
وفي النهاية، قصص “صالح وعلاء الدين” ليست مجرد روايات عن ماضٍ مروع، بل هي ملحمة إنسانية عن الصمود والتحدي، تحت سماء إقليم شمال وشرق سوريا، يواصل الأرمن كتابة فصول جديدة من حكايتهم، مزيجًا من دموع الألم، فخر النجاة، وأملٍ لا ينطفئ بمستقبلٍ أكثر إشراقًا.