دجوار أحمد آغا
رغم نظام الإبادة والتعذيب والعزلة القاتلة التي فرضتها قوى الحداثة الرأسمالية العالمية، عن طريق سلطات دولة الاحتلال التركي، بحق القائد الفيلسوف والمفكر الأممي الكبير عبد الله أوجلان، منذ لحظة وضعه في معتقل جزيرة إمرالي السيء الصيت، إلا إن قائد المحبة والسلام، قاوم كل هذه الضغوطات التي لا تتحملها الجبال، بالصبر والايمان بعدالة القضية، التي ناضل من أجلها، قضية الحقوق العادلة والمشروعة للشعب الكردي، وشعوب المنطقة، بعيداً عن سيطرة وسطوة أنظمة الدول الحاكمة وأدواتها القمعية.
لذا؛ من المهم جداً النظر الى أهمية الرابع من نيسان، يوم ميلاد القائد عبد الله أوجلان، من المنظور الإنساني الذي كانت ولادته فجراً جديداً لحرية الشعوب، وهو الذي قضى معظم حياته في ساحات المقاومة والكفاح، وهو يقاوم ويتمرد على ما هو مخالف لطبيعة الإنسان وفطرته، قاوم وهو خلف قضبان السجن الجائر، ومقاومته هذه المستمرة منذ 26 عاماً هي من أعظم مقاومة يشهدها الشرق الأوسط، لذا سنختتم هذه السلسلة، بالحديث عن النداء التاريخي الذي أطلقه القائد والمفكر عبد الله أوجلان في 27 شباط 2025 من أجل السلام والديمقراطية.
مبادرة السلام وتغيير موازين القوى
قبل أن نتحدث عن نداء السلام الأخير للقائد عبد الله أوجلان، لا بد من أن نذكر أنه على الرغم من كل ما قامت به السلطات التركية، ضد الشعب الكردي، وشعوب المنطقة، من ظلم واضطهاد وقتل وتدمير، لكنه أعطى الأتراك مرة أخرى فرصة الوصول الى الحل السلمي عبر الحوار، بعد فشل المحاولات التي سبقتها.
أرسلت السلطات التركية نهاية العام 2012 رئيس استخباراتها “حقان فيدان” إلى إمرالي، من أجل إجراء مفاوضات مع القائد حول سبل حل القضية الكردية، استمرت هذه المفاوضات إلى العام 2015، ووصلت إلى مراحلها الأخيرة من خلال الإعلان عن الوصول إلى اتفاق تم تسميته “دولمة بخجة”، نسبة إلى القصر الذي كان سيتم التوقيع على الاتفاق النهائي عليه.
لكن السلطات التركية رأت في الاتفاق فقدانها وسيطرتها على الشعب ومقدرات الدولة، ورفضت التوقيع في نهاية المطاف، بعد أن خسرت الكثير من الأصوات الانتخابية، التي ذهبت لصالح حزب الشعوب الديمقراطية، وبالتالي أوقفت المفاوضات وأعلنت الحرب مرة أخرى على حركة حرية كردستان، وقامت بقصف المدن والبلدات بالمدفعية والدبابات، واستخدمت الطائرات في ذلك، ثم قامت في 15 تموز 2016 بمسرحية الانقلاب، من أجل تطهير الجيش، والمؤسسات الأمنية، والقضاء، والتعليم، والجامعات، ومعظم مؤسسات ودوائر الدولة من الأعداء المفترضين للحزب الحاكم (العدالة والتنمية)، وحليفه حزب (الحركة القومية)، حسب منظورهم.
بعد أحداث “السابع من تشرين الأول 2023″، وهجوم حماس على إسرائيل، واختطاف رهائن وبدء الحرب الإسرائيلية المدمّرة على قطاع غزّة، وانعكاسات هذه الحرب على ما يُسمّى محور المقاومة أو الممانعة في المنطقة، (حركة حماس، وحزب الله اللبناني، وحركة الحوثيين في اليمن، والنظام السوري، وإيران نفسها)، كل هذه الأحداث والتطورات المتسارعة أدّت إلى بلورة رؤية جديدة لدى صنّاع القرار في المنطقة.
حركة حماس التي فقدت الكثير من قوتها وقادتها السياسيين والعسكريين، وعلى رأسهم إسماعيل هنية، ويحيى السنوار، بالإضافة إلى الخسائر الكبيرة في أرواح المدنيين الأبرياء، وخاصة النساء والأطفال، إلى جانب الدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتية للقطاع، وطال أيضاً الكثير من المناطق في الضفة الغربية.
حزب الله اللبناني الذي دخل المعركة غير مبالٍ بالويلات التي حلّت على الشعب اللبناني، الذي اضطر إلى ترك الجنوب والنزوح الى بيروت والشمال، والحزب أيضاً فقد أبرز قادته السياسيون والعسكريون، وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصر الله، التغيير الأبرز في المنطقة جرى مع هروب رأس النظام البعثي الفاسد بشار الأسد، وسقوط نظامه، الأمر الذي أدى إلى فقدان روسيا وإيران نفوذهما في المنطقة.
مبادرة بهجلي ونداء السلام التاريخي
في ظل هذه المتغيرات التي جرت في المنطقة، خرج زعيم حزب الحركة القومية التركي، دولت بهجلي، وقدم اقتراحاً في جلسة للبرلمان التركي، التي انعقدت نهاية تشرين الأول 2023، تضمنت “وجوب رفع العزلة عن القائد عبد الله أوجلان”، كي يأتي ويتحدث في البرلمان بوجود حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، وليقول، “إن العمليات العسكرية انتهت”، ويعلن حل حزب العمال الكردستاني.
وأكمل بهجلي حديثه: “إذا قام بإلقاء هذا الخطاب، قد نجد حلاً لإطلاق سراحه، بموجب المادة الثالثة من الاتفاق الأوروبي لحقوق الإنسان المعروفة بـ “الحق في الأمل”.
بطبيعة الحال؛ هذه المبادرة لم تأتِ عبثاً، وخاصةً إنها جاءت على لسان أشدّ الناس عنصرية وحقداً على الكرد، وقضيتهم العادلة، تركيا قرأت المستجدات الحاصلة في المنطقة، وعلم ساستها بأن المنطقة مقبلة على تغيرات جذرية، وبأن الكرد سيكون لهم دور مهم في مستقبل المنطقة، لذا ومن باب الإسراع في لملمة الأمور، قبل أن “يقع الفأس بالرأس”، وتصبح تركيا ساحة لصراع جديد في المنطقة، بعد الانتهاء من سوريا ولبنان وإيران، أوعز أردوغان لحليفه في الحكم بالقيام بهذه “المبادرة الاستثنائية” كما تحدث عنها المسؤولون الأتراك.
لم تكن المرة الأولى التي يطرح فيها القائد عبد الله أوجلان، رؤاه لحل القضية الرئيسية في تركيا، وهي القضية الكردية، وقد أكّد في الكثير من اللقاءات والحوارات التي أُجريت معه، قبل المؤامرة الكونية، التي أفضت إلى خطفه ووضعه في معتقل جزيرة إمرالي، بأنه جاهز للحل السياسي التفاوضي مع تركيا، ولكنه لم يكن يجد من يقبل الحوار، لأن معظم الساسة الأتراك، كانوا ميالين إلى حسم الأمور عسكرياً، رغم معرفتهم الأكيدة باستحالة هذا الأمر.
رسالة القائد عبد الله أوجلان، جاءت في وقت هام جداً لشعوب المنطقة عموماً، وكذلك هي الفرصة الأخيرة للسلطات التركية، للخروج من عنق الزجاجة، والوصول إلى حل سلمي وشامل للقضية الكردية، وبقية القضايا العالقة، وفي مقدمتها قضية الديمقراطية، الرسالة أتت بعد عقد عدة جولات من الحوارات والزيارات، التي قامت بها السلطات التركية، منذ أربعة شهور قبل إعلان الرسالة، بالإضافة إلى ذلك وجه القائد عبد الله أوجلان، رسائل إلى قوى المعارضة التركية، وكذلك إلى القوى والأحزاب الكردية في باكور، وخاصة حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، وأيضاً إلى قادة باشور كردستان، ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود البارزاني.
والحل يكمن اليوم في ضرورة اعتراف الحكومة التركية، بالحقوق السياسية، والثقافية، والاقتصادية، للشعب الكردي، وأن تنتهج نهجاً ديمقراطياً يسمح للكرد بالمشاركة السياسية واتخاذ القرار، حيث يرى القائد بأن القضية الكردية، لا تهم الكرد فقط، بل يتجاوز إلى حل القضايا العالقة في المنطقة والشرق الأوسط، والعالم أيضاً.
أهمية الرسالة والرابع من نيسان
لدى قراءة رسالة القائد عبد الله أوجلان، والتي كان من المفترض أن يقرأها هو بشكل مباشر، وعلى شاشات التلفزة، لكن السلطات التركية، أدركت تأثيرها الكبير على الداخل التركي، وعموم الشعب الكردي، ما دفعها للاكتفاء بقراتها من وفد إمرالي.
القائد عبد الله أوجلان، مفكر وفيلسوف، يسعى ويعمل بشكل مستمر من أجل التوصل إلى الديمقراطية الحقيقية، وبناء القدرة على مواجهة الرأسمالية العالمية، مع حماية وجود الإنسان وحقوقه المشروعة، وقد طرح من خلال رسالته مشروعاً يُمثل إعادة صياغة جذرية لمشروعه الفكري، والاجتماعي، والسياسي، الذي لا يتعارض مع مانيفستو الحضارة الديمقراطية.
وهو يستند في ذلك إلى العلاقة الأخوية بين الشعبين الكردي، والتركي، عبر أكثر من ألف عام، والسعي بشكل أكثر عمقاً من أجل تحويل الطاقة السلبية في تركيا، إلى قوة بناء تساهم إلى جانب القوة الإيجابية الموجودة لدى شعوب الشرق الأوسط، في الوصول للحل الديمقراطي، القائم على العيش المشترك، وتقبل الآخر، عبر حقيقة الاختلاف والتنوع.
خلال خمسة أجزاء تحدثنا عن ميلاد القائد عبد الله أوجلان، وطفولته، وفترة شبابه، ومن ثم تأسيسه حزب العمال الكردستاني، الذي قاد ثورة الشعب الكردستاني، منذ لحظة تأسيسه إلى يومنا هذا، هذه الثورة التي تحولت بفضل فكره وفلسفته، إلى ثورة عالمية تعمل من أجل حرية الشعوب والمجتمعات، وبناء المجتمع الأخلاقي، والسياسي، والبيئي، الذي يتّخذ من حرية المرأة أساساً له.
لذا؛ فإن الرابع من نيسان لا يمكننا اعتباره يوماً عادياً، فهو يوم انبعاث فجر الحرية، وأهم طريقة لفهم هذا اليوم والاحتفال به، يكمن في فهم مفهوم الحياة الجديدة التي يطرحها، وهو الذي وهب حياته، من أجل تحرير الشعب الكردي، وكذلك البشرية جمعاء.
لذلك، من واجب كل شخص يتحدث عن الإنسانية، أن يوصل نموذج القائد عبد الله أوجلان، إلى كل من يلتقي به، هذا النموذج الذي يعتمد على تحرير المرأة، والشبيبة، وبناء مجتمع أيكولوجي بيئي يحافظ على نقاء الطبيعة وصفاء الإنسان، وها ما يدعو أصحاب النهج والفكر الأوجلاني، أن يحتفلوا بيوم الرابع من نيسان من خلال زراعة الأشجار، وقراءة كتبه ومؤلفاته، في حلقات تشاركية في كل مكان.
المصادر
ـ مانيفستو الحضارة الديمقراطية بمجلّداته الخمس، وهي مرافعات القائد أوجلان 2009 / 2010 الى المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان.
ـ ملحمة الانبعاث، حوار أجراه الأستاذ “يالجين كوجوك”، مع القائد عبد الله أوجلان، الطبعة الأولى 1994م.
ـ أوجلان الزعيم… والقضية، تأليف رجائي فايد / أحمد بهاء الدين، الطبعة الأولى 1999م.
ـ مسألة الشخصية في كردستان، عبد الله أوجلان، الطبعة الأولى 1986م.
ـ التاريخ مخفي في حاضرنا ونحن مخفيون في بداية التاريخ، عبد الله أوجلان، الطبعة الأولى 1997م.