محمد عيسى
بين تحذيرات أمنيّة مشوبةٍ بالغموضِ، وزيارات مفاجئة تحمل رسائل مزدوجة، تعودُ الولايات المتحدة إلى المسرحِ السوريّ، بخطابٍ ملتبسٍ ومواقف تتأرجح بين الضغط والاحتواء. في دمشق، وبين أزقتها المدمّرة، ووسط المآذن والكنائس، يلتقي مشرّعون أمريكيون بالحكومةِ السوريّة المؤقتة، بينما تتردّد التحذيراتُ من “هجماتٍ وشيكةٍ” تهدد السيّاحَ… فهل تغيّرت واشنطن؟ أم أنّ ازدواجيّة السياسةِ ما زالت هي السيّدة؟
مسار مزدوج للرسائل والزيارات
في صباح الجمعة 18 نيسان 2025، أصدرت وزارة الخارجيّة الأمريكيّة تحذيراً عاجلاً دعت فيه مواطنيها إلى الامتناع عن السفر إلى سوريا، مشيرةً إلى “معلومات موثوقة” تتحدث عن هجمات وشيكة قد تستهدف مواقع يرتادها السياحُ، بما في ذلك مراكز تسوق وفنادق ومرافق مدنيّة. وجاء البيان بنبرةٍ شديدةٍ، عكست قلقاً أمريكيّاً متزايداً من تطوراتٍ ميدانيّةٍ غير واضحة، فيما بدت اللغة المستخدمة أكثر صرامة عما اعتاد عليه الرأي العام، لا سيما فيما يتعلق بسوريا، الدولة التي بقيت لسنواتٍ طويلةٍ في موقع الاشتباك الدبلوماسيّ مع واشنطن.
لكن هذا التصعيدَ في اللهجةِ لم يكن سوى نصف الصورةِ. فعلى الجانب الآخر من المشهد، وفي اليوم نفسه، وصلت إلى مطار دمشق الدوليّ طائرةٌ خاصةٌ تقل وفداً من الكونغرس الأمريكيّ يضم النائب كوري ميلز والنائبة مارلين ستوتزمان، في زيارةٍ اعتُبرت مفاجئة بمقاييس اللحظة السياسيّة، والأهم أنّها جاءت في توقيتٍ متداخل مع البيان التحذيريّ الصادر من الخارجيّة. هذه الزيارة لم تكن عابرة ولا رمزيّة، بل تم التخطيط لها بعناية، وتحمل في طياتها إشارات سياسيّة عميقة لا تقلُّ أهميةً عن التحذيرِ الأمنيّ الذي سبقها بساعاتٍ قليلةٍ. الوفد البرلمانيّ، رغم هويته التشريعيّة، لم يكن منفصلاً عن السياق الدبلوماسيّ الأشمل، فقد التقى بالرئيس الانتقاليّ أحمد الشرع، وفتح ملفات شائكة بين البلدين، على رأسها العقوبات الاقتصاديّة ودور إيران في الساحة السوريّة. ومن خلال هذه اللقاءات، حاولت واشنطن، عبر نوافذها البرلمانيّة، أن تراقب وتختبر توازنات القوة الجديدة في دمشق، وتلمّس مدى استعداد القيادة السوريّة الحالية للدخول في تسوية ما مع الغرب، ضمن حدود مرسومة ومصالح واضحة.
كوري ميلز، بخلفيته في لجنتي الشؤون الخارجيّة والخدمات المسلحة، لم يكن مجرد زائر بروتوكوليّ، بل يحمل ثقلاً سياسيّاً يعكس خط واشنطن الأمنيّ تجاه الشرق الأوسط. أما مارلين ستوتزمان، النائبة ذات التوجهات الجمهورية المحافظة، فمثّلت الوجه السياسيّ الأوضح لإرث إدارة ترامب، التي رغم خروجها من البيت الأبيض، ما زالت تملك تأثيراً واسعاً في صياغة المواقف الأمريكيّة إزاء القضايا الخارجيّة، وفي مقدمتها الملف السوريّ.
أكّد الوفد الأمريكيّ في تصريحاته أنّ زيارته تأتي في إطار فهمِ الواقع السوريّ على الأرض، والتعرّف على ملامح المرحلة الانتقاليّة، ومآلات ما بعد سقوط النظام السابق. ورغم هذا الطابع الاستطلاعيّ المُعلن، إلا أنّ طبيعة اللقاءات، وتوقيتها المتزامن مع التحذيراتِ الأمنيِّة، أضفت على المشهد بعداً إضافياً: واشنطن تُبقي على خطابها الحذر في العلن، بينما ترسل مبعوثيها للحديث مع المسؤولين السوريّين خلف الأبواب المغلقة.
والمفارقة أن التحذيرات من السفر لم تتراجع بعد انتهاء الزيارة، بل ظلت قائمة، لتؤكد أن الولايات المتحدة تمارس سياسة المسارين: تصعيد وتحذير لأغراض أمنيّة ورسائل سياسيّة مشفرة تُرسل عبر زيارات غير تقليدية، في محاولة للضغط والاحتواء معاً. فالرسائل لم تكن موجّهةً فقط للجمهورِ الأمريكيّ الذي يطالب بالتشدد تجاه سوريا، بل أيضاً للقيادة الانتقاليّة في دمشق التي تسعى لتثبيتِ شرعيتها دولياً.
اعتراف غير مباشر أم مقاربة براغماتية؟
في لقاءاتهما مع الصحافةِ، حاول النائبان الحفاظَ على خطابٍ متوازنٍ. قال ستوتزمان: “يجب ألا نخافَ من التحدثِ إلى أيّ أحد”، مستشهداً بتجاربِ إدارة ترامب في التفاوضِ مع طهران وبيونغ يانغ. تصريحٌ فتحَ الباب أمام تساؤلات حول ما إذا كانتِ الزيارةُ تمثل اعترافاً ضمنيّاً بشرعيّةِ الحكومة الانتقاليّة في سوريا، أم أنّها مجرد مقاربةٍ براغماتيّةٍ لاحتواءِ احتمالاتِ التصعيدِ في المنطقة.
التجوال الذي قام به الوفد داخل العاصمة دمشق، ولقاءاتهم بزعماء دينيين مسيحيين، إضافة إلى جدولهم المزدحم بلقاءاتٍ مع وزراءِ الحكومةِ الجديدةِ، لم يكن ليحدث لو لم يكن هناك تنسيقٌ مسبقٌ ورسائل ناعمة تمرّر عبر القنوات غير الرسميّة. لكن؛ وفي الوقت ذاته، حافظتِ الخارجيّةُ الأمريكيّة على موقفها المعلن: لا رفعَ للعقوبات قبل تحقيقِ شروط معينة، في مقدمتها إبعاد المرتزقة الأجانب عن مواقع القرار، وضمان تمثيلٍ حقيقيّ لكل أطياف المجتمع السوريّ في الحكم.
في اليوم التالي، السبت 19 نيسان الجاري، أصدرت وزارة الخارجيّة الأمريكيّة بياناً جديداً أكثر توازناً. دعت فيه إلى “ضبط النفس وتجنب التصعيد وبناء سوريا موحدة ومستقرة”، وأعرب مكتب شؤون الشرق الأدنى عن “تقديره لجهود الأطراف لتهدئة الأوضاع ووقف أعمال العنف”.
البيان بدا كأنّه يكمّل زيارة الوفد البرلمانيّ، من دون أن يناقضَ تحذيراتِ اليوم السابق. إذ ظلّت الخارجيّة على موقفها من خطورةِ الوضع الأمنيّ، لكنها أبدت انفتاحاً على مساعي الاستقرار. وهو ما يمكن قراءته كمحاولة لتمرير الرسائل نفسها بلغة مزدوجة: خطاب تحذيريَ للمجتمع الدوليّ، وخطاب استيعابيّ تجاه الحكومة الجديدة في دمشق.
هنا تتجلى بوضوح معالم الازدواجيّة في المقاربةِ الأمريكيّةِ للملفِ السوريّ: فمن جهة، تهديدٌ بالعقوبات وتصعيدٌ ورفضٌ بالاعترافِ، ومن جهة أخرى، فتح نوافذ دبلوماسيّة غير رسميّة، وربما حتى قنواتِ تفاوضٍ غير معلنة، خصوصاً مع اقتراب موعدِ الانتخابات الأمريكيّة، وحاجة الحزب الجمهوريّ إلى نجاحاتٍ في السياسةِ الخارجيّةِ.
الفراغ والمخاوف والمصالح المتقاطعة
لم يكن سقوطُ النظامِ السابق في دمشق نهاية المطافِ بالنسبة للمشهدِ السوريّ، بل شكّل نقطةَ تحوّلٍ كشفت حجم التصدعِ البنيويّ الذي تعاني منه سوريا، وأظهرت أن الانهيارَ لم يكن فقط في رأس النظام، بل في عُمقِ المؤسساتِ وفي التوازناتِ التي حكمتِ البلادَ لعقود، فالمشهدُ بعد الأسد بدا أكثر تعقيداً من أيّ وقت مضى، إذ برزت على السطحِ هشاشةٌ مضاعفةٌ، عززها التنافسُ بين قوى الأمر الواقع، وتكالبُ الميليشيات، وتزاحمُ الأجندات الخارجيّة على جغرافيا مفتوحةٍ على كلِّ الاحتمالات.
في قلب هذا المشهد، يحاولُ الرئيس الانتقاليّ أحمد الشرع إعادةَ ترتيبِ أوراق الدولة، وسط بيئة داخليّة مثقلة بالتصدعاتِ، وأرضيّةٍ إقليميّةٍ تفتقر لأيّ توافقٍ مستقر. فالمعركةُ لم تعد فقط ضد الإرهابِ أو الفوضى، بل ضد منظومة كاملة من الفاعلين غير الرسميين الذين تمددوا في الفراغ، واستقروا فيه كسلطاتِ أمر واقع، بأجنداتِ تتباين من أقصى اليمين المذهبيّ إلى أقصى الطموحِ الجيوسياسيّ. الشرع، في جهوده لترميم المؤسسات الرسميّة، يصطدمُ بجدران المجموعات المسلحةِ، التي لا تزال ممسكةً بأعصاب بعض المناطق، وبمراكز نفوذ داخل الأجهزة المتآكلة. كما يصطدم بعين المراقبة الدائمة من عواصم كبرى تتعامل مع المرحلة الانتقاليّة كمنصة للصراع وليس كبداية للاستقرار.
من طهران إلى أنقرة، ومن موسكو إلى واشنطن، تتقاطعُ المصالح وتتنافر، كلٌّ وفق أولوياته وحساباته. إيران، التي دفعت كثيراً للدفاع عن النظام السابق، لا تخفي توجسها من أيّ صيغةِ حكمٍ لا تضمن لها استمراريّة نفوذها العسكريّ والعقائديّ. أنقرة، بدورها، تراقب باهتمامٍ بالغٍ شكلَ الدولة الجديدة، وتركّز على ما إذا كانت ستبقى لها اليد الطولى في الشمال السوريّ، حيث تمددت لسنواتٍ بذريعةِ الأمن القوميّ وملاحقة خصومها. أما روسيا، فرغم انسحابها التدريجيّ الظاهريّ، ما زالت تطمحُ لدورٍ سياسيّ يضمنُ لها موطئ قدم في شرق المتوسط. وسط كلّ هذا، تعود الولايات المتحدة إلى الواجهةِ، ولكن بوجهٍ جديدٍ أكثر براغماتيّة، يحاول أن يتعلمَ من إخفاقات العقد الماضي.
زيارة الوفد الأمريكيّ إلى دمشق، بهذا المعنى، لا يمكن قراءتها كخطوةٍ رمزيّةٍ أو مفاجئةٍ فحسب، بل كتحركٍ محسوبٍ يرمي إلى قراءةِ الخريطة الجديدة بعيٍن استراتيجيّة. فواشنطن، التي كانت لعقودٍ ترسمُ السياسات من موقعِ القوةِ، تجد نفسها اليوم مضطرةً إلى الانخراطِ بحذرٍ في مشهدٍ لا يشبه ماضيها السوريّ، ولا يشبه لحظاتِ الحسمِ التي طبعت سنواتِ الحربِ الأولى. لم تعد سوريا هي “الملف الأخلاقيّ” في سياسات البيت الأبيض، ولا ساحة التجريبِ لإرسال الرسائل إلى طهران، بل باتت معضلةً أمنيّةً وسياسيّةً ذاتِ أبعادِ إقليميّةٍ دقيقةٍ، تتطلبُ مقاربةً أكثر تعقلاً وتوازناً.
وما بين الخطاب التقليديّ عن “الشرعيّة واللاشرعيّة”، وبين واقع القوى الفاعلة على الأرض، تدركُ واشنطن أنّها أمام منعطفٍ يحتاجُ إلى أدواتٍ جديدةٍ في التعاطي.
وقد عبّر النائب ستوتزمان عن هذا الشعور حين قال: “توجد فرصة هنا، وهذه الفرص لا تأتي إلا مرة واحدة في العمر… لا أريد دفع سوريا إلى أحضان الصين، أو العودة إلى أحضان روسيا وإيران”.
فهي تخشى أن تترك الساحة نهائيّاً للخصوم، خاصةً إيران وروسيا، كما تخشى أن يستمر انهيار الدولة السوريّة بما يسمح بتحولها إلى بؤرة دائمة للفوضى العابرة للحدود.
لذلك، قد لا يكون من المستغربِ أن تُراجعَ الإداراتُ الأمريكيّة المقبلة خطابها التقليديّ، وتبدأ بتبني رؤيةٍ أكثر واقعيّةً، تقوم على حماية المصالح الاستراتيجيّة في شرق المتوسط، وضبط مساراتِ النفوذ، لا على إدارةِ الصراعِ من مسافةٍ آمنةٍ.
في هذا السياق، تبدو واشنطن وكأنها بدأت تدرك أن زمن الشعارات قد ولّى، وأن المرحلة الجديدة في سوريا تتطلب تفكيراً مختلفاً، بعيداً عن نزعة الإقصاء والتصنيف المسبق، وقريباً من براغماتية تُراعي تحولات الميدان، وتقرأ الواقع بعقلانية المصالح لا بحماس العقوبات، وهذا ما يجعل زيارة الوفد الأمريكيّ إلى دمشق أكثر من مجرد حدث عابر، بل خطوة أولى في مسار قد يعيد رسم العلاقة مع سوريا الجديدة، إن لم يكن على قاعدة الشراكة، فعلى الأقل وفق تفاهمات الحد الأدنى التي تمنع الانهيار التام.
الداخل القلق والخارج المتربص
الشارع الدمشقي، الذي أنهكته سنوات الحرب والتشريد والانهيار، لم ينظر إلى زيارة الوفد الأمريكيّ بعين الحماسة، بل بعين الحذر العميق والشك المشروع. فالسوريّون، الذين اختبروا كل أشكال الخذلان من السياسات الدولية، لم يعودوا أسرى الأملِ الساذج، ولا أسرى الشعاراتِ الكبيرة. لقد باتوا يقرأون كلّ حدثٍ خارجيّ من زاوية تأثيره المباشر على حياتهم اليومية، من رغيف الخبز إلى فاتورة الكهرباء، ومن طوابير المحروقات إلى شلل القطاع الصحي والتعليمي. وعلى هذا الأساس فقط، تُفهم الزيارة وتُقيّم، لا على أساس النوايا المعلنة أو التصريحات الدبلوماسية.
لكن رغم هذا الحذر، لا يمكنُ إغفال حقيقة أنّ أيّ انفتاحٍ خارجيّ، حتى وإن كان محدوداً أو مشروطاً، يحمل في طياته بارقةَ أملٍ لأناس أنهكتهم العزلة والعقوبات. فإعادةُ فتحِ القنوات مع واشنطن، ولو عبر بوابة برلمانيّة، قد تعني للبعض بدايةً لكسرِ الطوقِ المفروض منذ أكثر من عقد، وبداية لحلحلة جزئيّةٍ في ملفِ العقوباتِ التي أثقلت كاهلَ الاقتصادِ السوريّ، وعطّلت إمكانيات إعادة الإعمار والاستثمار وعودة دورة الإنتاج.
الرهان الشعبيّ، إن وُجد، فهو ليس على تغيير جذريّ في الموقف الأمريكيّ، بل على فتح ثغرة في جدار الانغلاق الدوليّ، تسمحُ بدخولِ مساعدات، أو بتسهيل حركة التحويلات، أو بتخفيف القيود المفروضة على بعض القطاعات الحيويّة. فالسوريّون يدركون أنّ واشنطن لا تتحرك بدوافع إنسانية خالصة، كما يدركون أن اللعبة أكبر من حدود الجغرافيا السوريّة. ومع ذلك، فهم يتطلعون إلى أي فرصة، ولو ضئيلة، تتيح لهم استنشاق شيء من الأمل وسط الركام.
أما في الخارج، فالتربصُ لا يزال قائماً، والمراقبة حثيثة، واللاعبون الكبار يرقبون كلّ خطوة وكلّ لقاء، في محاولةٍ لاستباقِ التحولاتِ أو توظيفها. إيران، وتركيا، وروسيا، وحتى إسرائيل، تتابع باهتمامٍ بالغٍ تفاصيلَ الزيارةِ، ورسائلها، وانعكاساتها المحتملة، فدمشق لم تعد ساحةَ صراعٍ محليّةٍ، بل منصة دوليّة مفتوحة على صراع الإرادات، ومفترقَ طرقٍ استراتيجيّ تُرسم عنده خرائط النفوذ والمصالح.
هكذا تمضي سوريا في حاضرها المعلقِ بين ماضٍ لم يُدفن، ومستقبلٍ لم يُولد، وسط توازناتٍ متحركة وقلقٍ داخليّ عميقٍ، وخارجٍ لا يزال يترقب اللحظة المناسبة للانقضاض أو للتفاهم، بحسب ما تقتضيه المصالح والخرائط المؤقتة. وبين هذا وذاك، يبقى المواطنُ السوريّ العادي الحلقةَ الأضعف، العالق في انتظارِ الانفراج، أو ربما في انتظارِ عاصفةٍ أخرى.