دجوار أحمد آغا
ليس هناك شعب في العالم يعاني من التقسيم والاحتلال من دول كثيرة، سوى الكرد، هذا الشعب لديه منذ القدم، وحتى الآن، مساهمات كبيرة في إغناء الحضارة الإنسانية، من خلال بناء إمبراطوريات وممالك عريقة، أقام من خلالها كونفدرالية الشعوب في مواجهة السلطات المستبدّة، وقد تعرّض هذا الشعب الأصيل فيما بعد، إلى الكثير من الظلم والاضطهاد، التي وصلت إلى حد ممارسة الإبادة العرقية، من الدول المحتلة والمستعمرة.
خاض الكرد في تاريخهم الطويل، الكثير من الحروب والثورات في مواجهة الغزاة والمحتلين، الذين استخدموا السبل كافة في القضاء على وجود الشعب الكردي، وأكثر ما يحزّ نفس الإنسان الكردي، أن البعض من الكرد من ذوي النفوس الضعيفة، الذين باعوا أنفسهم للعدو، أو انخدعوا بوعوده، كان لهم دور في القضاء على ثورات وانتفاضات شعبهم في مختلف أجزاء كردستان، “حسن خيري” نموذجاً.
ويبقى المحتل التركي أكبر وأبرز وأشرس أعداء الكرد على الإطلاق، لأن تركيا أسست دولتها الحديثة على أرض الكرد التاريخية؛ باكور كردستان، القسم الأكبر الذي يتجاوز مساحته 260 ألف كم2، ويتواجد فيه أكثر من 30 مليون كردي، الأمر الذي ولّد صراعاً مريراً بين الكرد وتركيا، وما زال مستمراً إلى يومنا هذا في ثورة ومقاومة حزب العمال الكردستاني.
أصل الأتراك وقدومهم إلى الأناضول
معظم الأبحاث والدراسات حول أصل الأتراك، تؤكّد أنهم من الشعوب البدوية (قبائل الغز “الأوغوز”) التي عاشت في آسيا الوسطى بالقرب من جبال “آلتاي” بين روسيا، ومنغوليا، وكازاخستان، والمعروفين باسم الأتراك، ومع مجيء الإسلام وانتشاره بينهم، قام سلجوق بن دقاق أحد أفراد قبيلة (قنق)، من قبائل “الغز”، بالتوجه غرباً نحو الخلافة العباسية في بغداد، وساعد السلاجقة الخلافة العباسية ومذهبها السنّي في مواجهة النفوذين البويهي الشيعي في إيران والعراق، والعبيدي الفاطمي في مصر، حيث قضى السلاجقة على كليهما. بعدها؛ قدم السلاجقة العثمانيون، أجداد الأتراك إلى آسيا الصغرى (الأناضول)، وسكنوا فيها بمساعدة الكرد السكان الأصليين في المنطقة، وذلك خلال معركة ملاذ كرد، التي جرت في 26 آب 1071 بقيادة ألب أرسلان، ضد المماليك والانتصار عليهم، الأمر الذي أدّى فيما بعد إلى تأسيس سلطنة عثمانية في العام 1299، تحت قيادة عثمان بن أرطغرل بن سليمان شاه، والتي استغلت الدين الإسلامي لتحتل الكثير من الشعوب والأوطان، في ثلاث قارات (آسيا، أوروبا، أفريقيا) واستمرت لمدة تزيد عن 600 عام، والتي كانت نهايتها في العام 1922.
التقسيم الأول لكردستان 1514
خلال معركة جالديران 1514، وبناء على دعوة الملا إدريس البدليسي، وقفت معظم قوات العشائر والإمارات الكردية القوية إلى جانب العثمانيين، مما أدى إلى تفوقهم بشكل واضح، وبالتالي الانتصار في هذه المعركة الحاسمة عملياً قسّمت كردستان إلى قسمين، أحدهما تحت سيطرة الصفويين في الشرق، والتي هي ما تزال حتى الآن تحت سيطرة الإيرانيين، بموجب اتفاقية قصر شيرين 1639، التي رسمت الحدود، والأخرى القسم الأكبر تحت سيطرة العثمانيين، والتي تجزأت فيما بعد إلى ثلاثة أجزاء، العثمانيون وفوا بوعودهم وتركوا الإمارات الكردية شبه مستقلة في مناطقها دون أن يعملوا على الاحتلال المباشر، لكنهم مع خسارتهم في أوروبا على أبواب فيينا سنة 1683، والتي خسر فيها الأتراك ما يزيد عن 20 ألف مقاتل، توجهوا إلى الشرق وبدؤوا بمواجهة الإمارات الكردية الشبه مستقلة.
بدء الصراع العثماني ـ الكردي
عندما خسر العثمانيون بعض الأراضي التي سيطروا عليها، والبلاد التي احتلوها في الغرب، توجهوا نحو الشرق تحت حجة مواجهة الصفويين، لكنهم في حقيقة الأمر كانوا يستهدفون الإمارات الكردية، التي سبق لهم أن وعدوا أمراءها بتركهم يحكمون مناطقهم دون تدخل من المركز.
لذا؛ قام العثمانيون باتخاذ إجراءات من الدولة المركزية، تحدّ من صلاحيات ونفوذ الأمراء الكرد، وهكذا بدأت حقبة الصراع بين هذه الإمارات الكردية، والسلطنة العثمانية، التي جهزت حملات كبيرة للقضاء على هذه الإمارات، ولعل أبرزها (إمارة بهدينان، وإمارة بابان، وإمارة سوران، وإمارة بوطان)، حيث قام الأمراء الكرد وشيوخ الدين بانتفاضات وثورات عارمة ضد الاحتلال العثماني.
وأهم هذه الثورات كانت: (ثورة علي بن جنبلاط سنة 1607في حلب، وثورة عبد الرحمن باشا الباباني سنة 1806في السليمانية، وثورة مير محمد باشا الراوندوزي سنة 1830 في سوران، وثورة إسماعيل باشا البهديناني سنة 1835 بهدينان، وثورة بدرخان بك أمير بوطان 1847جزيرة بوطان، وثورة يزدان شير 1853 ـ 1856بوطان، وانتفاضة ديرسم 1877 ـ 1878، ديرسم، وانتفاضة الشيخ عبيد الله النهري 1880شمزينان، وحركة بدليس 1913 بقيادة الملا سليم، والملا شهاب، والملا علي في بدليس).
ردة فعل العثمانيين على الثورات والانتفاضات
رفض الكرد الإجراءات المركزية التي قامت السلطات العثمانية اتخاذها ضدهم، وبدأت بالغليان الذي وصل إلى درجة القيام بثورات وانتفاضات عارمة، البعض منها هزّ العرش العثماني في إسطنبول، وأدخل الرعب إلى قلوب السلاطين العثمانيين، فواجه العثمانيون هذه الانتفاضات والثورات بمختلف الأساليب، واستخدمت فيها سياسة الحديد والنار، أو المكر والخداع وحبك المؤامرات والدسائس بين الكرد، وضربهم ببعضهم.
وقام العثمانيون باستخدام الأساليب الوحشية، ضد هذه الثورات والانتفاضات، ونفي قادتها إلى بلاد بعيدة، بالإضافة إلى وضع أشخاص من طرفهم وموالين لهم في المناطق المنتفضة، وأكبر مثال على ما قامت به هذه السلطات، هو ما جرى للعائلة البدرخانية الأميرية في جزيرة بوطان، والتي تم تشتيتها وحتى تغيير لقبها إلى “جنار”، ونفي زعيمها التاريخي الأمير بدرخان الكبير، إلى جزيرة كريت اليونانية، ومن ثم إلى الحجاز وأخيراً إلى دمشق التي توفي فيها.
معاهدة سيفر 1920 ونتائجها
بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها سنة 1918، تم تشكيل عصبة الأمم، والتي بدأت بعقد اجتماعات من أجل حقوق الدول والشعوب، التي تعرضت للاحتلال من جانب الدول التي خسرت الحرب، وهي ألمانيا، والسلطنة العثمانية، وهنا قرر الكرد والأرمن، تشكيل وفد مشترك إلى العصبة، كان الوفد الكردي برئاسة الجنرال شريف باشا، والأرمني برئاسة نوبار باشا، وكان الوفدان على تواصل دائم.
عقد الوفد الكردي الكثير من اللقاءات مع وفود الدول الكبرى، واستطاع أن يضمن حقوق الكرد في معاهدة سيفر، التي تم توقيعها بين وفود الدول المنتصرة في الحرب، ووفد السلطان العثماني محمد رشاد، في العاشر من آب 1920، هذه المعاهدة التي أقرّت بحقوق الكرد وفق البنود 62، 63، 64، لكنها للأسف الشديد بقيت مجردّ حبر على ورق ولم تُنفذ.
التقسيم الثاني لكردستان معاهدة لوزان 1923
انتصار مصطفى كمال “أتاتورك” في حرب الاستقلال، قوّى موقفه في مواجهة الدول الأوروبية، الموقّعة على اتفاقية سيفر، التي رفضها فدعا إلى إجراء مفاوضات جديدة بينه وبين الدول الأوروبية، وخاصة بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وبذكاء وحنكة، أوكل أتاتورك قيادة هذه المفاوضات إلى “عصمت إينونو” الكردي الأصل، في إشارة للدول الأوروبية، أنه ليس هناك أية مشكلة كردية، والقضية الكردية محلولة.
بعد عدة جولات من المفاوضات، وفي 24 تموز 1923 توصل الطرفان إلى اتفاقية جديدة، تم توقيعها بمدينة لوزان السويسرية، بموجب هذه الاتفاقية تنصّل أتاتورك من التزاماته بشأن الحقوق القومية للشعب الكردي، وبالتالي لم يعد للكرد وجود في الجمهورية الجديدة، بل أنها أقرّت بتقسيم كردستان إلى أربعة أجزاء، حيث تم إلحاق جزء (ولاية الموصل أي باشور كردستان) بالدولة العراقية، حديثة التكوين، وجزء آخر (روج آفا) بالدولة السورية، حديثة التكوين أيضاً، وهكذا أصبحت كردستان “مستعمرة دولية”.
تأسيس الجمهورية التركية 1923
بعد انهيار السلطنة العثمانية، برز نجم الضابط التركي، مصطفى كمال، من سالونيك، الذي اتّخذ أنقرة عاصمة له في وسط الأناضول، بعيدا عن عاصمة السلطنة إسطنبول، ولم يقبل الاتفاق الذي تم توقيعه بين الحلفاء وممثلي السلطان في سيفر 1920، وقام بعقد مؤتمرات أرضروم وسيواس، ودعا إليها قادة وزعماء الشعب الكردي، السياسيين والدينيين، الذين صدّقوا وعوده بأنه بمجرد إخراج الأعداء من الأراضي، التي احتلوها وتحقيق استقلال البلاد، فإن هذه البلاد سوف تكون للكرد والترك، كما أنه أعلن في مؤتمر صحفي في “أزميت” بأنه سوف يعطي الكرد الحق في الحكم الذاتي في مناطقهم، وفق ما ذكر موسى عنتر، في مذكراته.
في 29 تشرين الأول 1923 تم الإعلان عن تأسيس الجمهورية التركية، التي شارك الكرد بمعاركها، “حرب الاستقلال” إلى جانب الأتراك ضد اليونانيين والإيطاليين والفرنسيين، وبعد أن حققوا الانتصار وتحرير المناطق المحتلة وطرد المحتلين، أعلن مصطفى كمال الجمهورية التركية، وبدأت محاكم الاستقلال الحكم بالإعدام على الأشخاص الذين سبقوا أن خدموا أتاتورك.
الثورات والانتفاضات الكردية
شعر الكرد بالغبن، وبأنهم تعرّضوا للخديعة من جانب الأتراك، الأمر الذي دفعهم إلى الانتفاض والثورة مجدّداً في مواجهة الطورانية التركية، كما سبق أن رفعوا السلاح ضد أسلافهم العثمانيين.
أبرز الثورات التي جرت في باكور كردستان:
ثورة 1925 بقيادة الشيخ سعيد بيران.
انتفاضة وثورة آكري (آرارات) بقيادة الجنرال إحسان نوري باشا 1927 ـ 1931.
ثورة ديرسم 1936 ـ 1937 بقيادة سيد رضا.
هذه الثورات قام بها الكرد، في مواجهة شركاء الأمس في حرب الاستقلال، الذين أداروا الظهر للكرد وطعنوهم من الخلف.
الدولة التركية وسياسة القتل والتدمير
لم يشفع للكرد وقوفهم إلى جانب الأتراك في حرب الاستقلال وتأسيس الجمهورية التركية، فبمجرد أن طالب الكرد بحقوقهم، أظهر الأتراك وجههم الحقيقي وكشّروا عن أنيابهم، وبدؤوا بنهش لحم الشعب الكردي، الذي قدم الآلاف من أبنائه من أجل الوقوف إلى جانبهم، ومن قبلهم أسلافهم العثمانيين.
ولم يكتفِ الأتراك بالقضاء على الانتفاضات والثورات التي قامت، بل لاحقوا الشعب الكردي، وخاصة في ديرسم، حيث قاموا بارتكاب مجازر وحشية بحق النساء والأطفال (كلي زيلان، وكوجكيري، ونوالا قصابا)، وتم بقر بطون النساء، وإلقاؤهن من أعالي الجبال، وقاموا باستخدام الغازات السامة ضد الكرد، كما أنهم قاموا بإعدام قادة الثورة من رجال الدين رغم كبر سنهم، (الشيخ سعيد بيران، وبير سيد رضا).