شهد الساحل السوري لحظة تاريخية، مع فرار بشار الأسد، في الثامن من كانون الأول 2024، حيث عمّت الأفراح المدن والبلدات والقرى، ابتهاجاً بسقوط الطاغية الذي حكم البلاد بقبضة حديدية لعقود، لكن تبيّن أن هذا الفرح كان مؤقتاً، فسرعان ما ظهرت تحديات جديدة مع وصول هيئة تحرير الشام إلى سدّة الحكم.
إذ لم تمضِ سوى فترة قصيرة، حتى كشفت الهيئة عن نواياها، وبدأت في فرض أيديولوجيتها المتشددة بطرق متنوعة، ما أثار القلق والريبة بين السكان، وجعلهم يتوجّسون من القادم الذي قد يكون أسوأ من النظام الذي أُطيح به.
ففي اليوم الأول لسقوط السلطة في دمشق، اجتاحت قوات هيئة تحرير الشام، المدن الساحلية بسيارات محمّلة بالسلاح وعناصر ملثمين، وبدأت بإطلاق النار في الشوارع لتأكيد انتصارها على نظام الأسد، وحينذاك، تخلى عناصر الجيش والشرطة والقوات الأمنية عن أسلحتهم، وغادروا مقرّاتهم، تاركين إياها عرضةً للفوضى والتخريب. ما أفسح المجال لعمليات السلب والحرق التي طالت معظم المؤسسات والمراكز الأمنية والخدمية، وأُعلن حظر تجوّل، وانتشرت السرقات على نطاق واسع، مستهدفةً المنشآت الاقتصادية والخدمية وحتى المنازل. كما ازدادت حالات المداهمات والخطف، ما خلق أجواءً من الرعب بين السكان، حيث كانت الشوارع شبه خالية مع غروب الشمس، وفي الليل، خالية تماماً.
كانت المناطق الساحلية، مثل اللاذقية وطرطوس، معروفة سابقاً، بأنها معاقل أساسية لنظام الأسد، لكن الواقع كان مختلفاً تماماً، فأغلب سكان هذه المناطق كانوا يعانون من فقر مدقع، ويعيشون ظروفاً صعبة نتيجة غياب الخدمات الأساسية التي لا ينعم بها سوى حفنة من أمراء الحرب والفاسدين. لذلك، تحولت مشاعر الكثير منهم إلى نقمة على النظام، لِما عانوه من مآسٍ وكوارث طوال سنوات حكمه.
وآنذاك، انخرط العديد من شباب المنطقة في صفوف الجيش، أو “قوات الدفاع الوطني” بحثاً عن راتبٍ هزيل يجنّبهم شبح البطالة، ولقي عشرات الآلاف منهم حتفهم في الاشتباكات، حتى أن معظم الأسر باتت فاقدة لأحد أفرادها، سواء كان قتيلاً أو جريحاً أو مفقوداً.
تزامنت هذه الأحداث مع صدور قرارات من إدارة العمليات العسكرية بتعيين مديرين لأهم المؤسسات، غالبيتهم من محافظة إدلب، معقل هيئة تحرير الشام.
وبدأت الفصائل التابعة للهيئة بمداهمة الأحياء والقرى، بذريعة البحث عن السلاح وملاحقة “فلول النظام”، أسفرت عن اعتقالات وتنكيل بأتباع الطائفة العلوية، وارتكاب مجازر بحقهم، راح ضحيتها العديد من الأبرياء.
وعلى الرغم من التصريحات المتكررة من إدارة العمليات العسكرية بأن من يقف وراء هذه الجرائم لا ينتمون إلى الهيئة وسيُحاسبون، فإن السكان لم يشهدوا أي إجراءات فعلية لتهدئة مخاوفهم.
اقتصادياً، تدفقت البضائع التركية إلى أسواق المدن الساحلية بأسعارٍ تنافسية، نتيجة إعفائها من الضرائب والرسوم، ولكن الجودة تفاوتت بين الجيدة والرديئة، في غياب أي رقابة صحية تضمن سلامتها للمستهلكين، وتحولت الأرصفة والساحات والحدائق إلى “بسطات”، في مشهد مؤلم يُعيد إلى الأذهان صوراً من أكثر البلدان تخلفاً.
في المقابل، توقفت العديد من المؤسسات الإنتاجية عن العمل؛ نتيجة فقدان الأمن، وعجز الكثير من الموظفين عن الوصول إلى أعمالهم بسبب ارتفاع أجور النقل مقارنةً بدخولهم المحدودة.
كما مُنح آلاف العاملين في المؤسسات الحكومية إجازة قسرية لمدة ثلاثة أشهر بذريعة “فائض عمالة”، على أن يُنظر في وضعهم مستقبلاً، بينما سُرّح العمال المتعاقدون فوراً، بحجة أنهم عُيّنوا من قبل النظام، كونهم من ذوي شهداء الجيش.
على الصعيد الخدمي، لا تزال الكهرباء حلماً صعب المنال ومصدر قلق دائم، ينتظرها المواطنون بفارغ الصبر، بعد ساعات طويلة من الانقطاع، لتأتي فترة قصيرة لا تتجاوز الساعة، وأحياناً لا تزيد عن نصف ساعة، وهي بالكاد تكفي لشحن البطاريات والهواتف المحمولة.
أما الاستحمام بالماء الساخن إن وُجد، فقد أصبح رفاهية بعيدة، والمحظوظ من يستطيع التوفيق بين وصول الكهرباء وتدفق المياه في المواسير، وعند حدوث أي عطل في شبكة المياه، فإنه يستمر فترة طويلة، لندرة ورشات إصلاح الأعطال.
وفي مجال القضاء، الذي يُعدّ من أهم دعائم الدولة، شهدت الأوضاع تدهوراً كبيراً بعد فرار الأسد. إذ هاجم بعض المخربين القصر العدلي في اللاذقية، وأحرقوا وأتلفوا الوثائق والقضايا والأضابير الموجودة فيه، ما أدى إلى توقف العملية القضائية بشكلٍ كامل.
ولم تقتصر الأزمة على ذلك؛ فقد زادت الأمور تعقيداً مع إيقاف إدارة العمليات العسكرية العمل بالدستور، ما جعل القضاة في حالة من الارتباك وفقدان المرجعية في اتخاذ القرارات، نتيجة لهذا الفوضى، بقيت الكثير من دعاوى المواطنين معلّقة، وقد تستغرق شهوراً طويلة قبل أن يتم البتّ فيها، هذا إذا أُعيد ترميم ما دُمّر.
في خضمّ هذه الأوضاع الصعبة، بادر العديد من السياسيين الوطنيين والحكماء إلى عقد التجمّعات والمنتديات السياسية في عدة مدن ساحلية، بهدف دراسة المشهد السياسي المستجد وتحديد الخطوات الواجب اتخاذها.
ومن أكثر الأمور المبشّرة، أن معظم هذه التجمّعات رفضت فكرة التقسيم أو المحاصصة الطائفية والحماية الدولية، التي دعا إليها بعض المثقفين، وكان المشاركون، مثل باقي السوريين، يأملون في انعقاد مؤتمر وطني يشمل جميع المكونات السياسية والقومية والدينية دون إقصاء أو تهميش لأي طرف، بهدف التشاور والتفاهم على مستقبل سوريا. إلا أن سلطات دمشق أجّلت انعقاد المؤتمر إلى موعد غير مُسمى.