د. طه علي أحمد
تتواتر أخيراً أخبارٌ عن خططٍ أعدَّدتها وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) بشأن سحب قواتها من سوريا وذلك بعد إشارات من جانب الرئيس دونالد ترامب الذي كان قد سحب غالبية قوات بلاده خلال فترة ولايته الأولى (2017 – 2021)، ورغم أهمية هذا الانسحاب “بشكلٍ نظري”، إلا أن واقع الأمور يثير بجديةٍ إشكالية الوجود الأجنبي في سوريا بشكلٍ عام، لاسيما وإننا بصدد الإعداد لواقعٍ جديدٍ في سوريا الجديدة.
ولطالما لعب الوجود العسكري الأجنبي دوراً مُعقَّداً في سوريا خلال السنوات العشر الأخيرة، ففي حين أسهم ذلك في الحيلولة دون استئثار فصيل بعينه بالسيطرة على كامل الأراضي السورية، فقد عمَّق هذا الوجود الأزمة التي عاشها السوريون وأخَّر سقوط نظام “حزب البعث” لأكثر من 12 سنة، بل ضاعف من الخسائر المادية والبشرية بين السوريين، ففي سوريا تتقاسم أربع دول أجنبية هذا الوجود العسكري هي الولايات المتحدة وتركيا وإيران وروسيا بأعدادٍ وأهدافٍ متفاوتة، الأمر الذي يفرض انسحاباً متوازياً بين هذه الدول الأربع إذا ما أردنا الحديث عن انسحابٍ عسكري يُلَبِّي طموحات الاستقرار في سوريا التي يوجد على أراضيها أكثر من 800 قاعدة ونقطة عسكرية تابعة لهذه الدول الأربعة.
وكانت الآونة الأخيرة قد شهدت تطورات تبدو إيجابية في هذا الصدد؛ حيث أعلن قائدُ الحرس الثوري الإيراني، حسين سلامي، خلال إفادةٍ برلمانيةٍ في العاشر من ديسمبر الماضي، أن بلاده لم يعد لها أي وجودٍ عسكريٍ في سوريا، كما أعلن الجانب الروسي عن إمكانية مناقشة سحب القوات الروسية مع السلطات السوريّة الجديدة قريباً، بالإضافة إلى التقارير المذكورة حول سحب القوات الأمريكية، لتبقى القوات التركية بمثابة حجر العثرة الوحيد في طريق إزالة الوجود العسكري، والذي يُعدُّ – بلا شك – أحد الضمانات والركائز الأساسية للمضي نحو بناء دولة “حقيقية” في سوريا.
ومنذ بدء التدّخل العسكري التركي المباشر في سوريا من خلال عمليةٍ عسكريةٍ، في آب 2016، أطلقت عليها تركيا مُسمَّى “درع الفرات” بزعم تأمين حدودهم لكن الواقع أكد أن هذه العملية وما أعقبها ما كان ليهدف إلا لتأمين وجود طويل الأجل (احتلال) لمساحاتٍ كبيرةٍ من الأراضي السوريّة شملت نحو 130 نقطة وموقعٍ عسكريٍ شمالي غرب البلاد في حلب وإدلب والرقة والحسكة واللاذقية وحماة، وقد تعزَّز ذلك بسيلٍ من التصريحات الصادرة عن مسؤولين أتراك بدايةً من رئيس الدولة ووزير خارجيتها وصولاً إلى حلفاءٍ سياسيين للحزب الحاكم مثل “قادة حزب الحركة القومية”، وقد كشفت تصريحاتهم جميعاً عن مكانة مناطق سوريّة مثل حلب وغيرها في المُخَيلة الاستعمارية والطموحات الإقليمية لدى الأتراك، وهو ما يتأكد – أيضاً – مع الاحتضان المُفرط للقيادة السوريّة الجديدة من جانب الأتراك الأمر الذي يدقُ ناقوس الخطر ويُبدد الآمال ويُضعف أية احتمالات بشأن إمكانية أن نرى دولةً ذات قرار سيادي مستقل في سوريا مستقبلاَ، وبطبيعة الحال لا تقتصر خطورة ذلك على الداخل السوري بقدر ما تتسع لتشمل الأمن الإقليمي الذي يتهدد بتمدد النفوذ التركي في دول الجوار، وهو ما يتبين بوضوح إذا ما نظرنا لاتفاقيتين أمنيتين ذات طبيعة استراتيجية وقعتهما تركيا مع فاعلٍ ذات شرعيةٍ منقوصةٍ في ليبيا، وهي “حكومةُ الوفاق” برئاسة فائز السراج في نوفمبر 2019، وقد ترتب على ذلك تأزمٌ في المشهد الإقليمي بمنطقة بشرق المتوسط كانت أطرافه مصر وتركيا ودول جنوب أوروبا وتحديداً فرنسا على إثر هاتين الاتفاقين.
الحالُ لا يبتعد كثيراً عن أي تقاربٍ يفوق الحد المعقول بين تركيا والسلطات السورية الجديدة، من شأنه تأزُّم البيئة الأمنية لسوريا داخلياً وخارجياً، لاسيما وأن الوجود التركي في سوريا سياسياً وعسكرياً يستهدف مكونات محلية في المقام الأول، وما ملاحقة قوات حزب العمال الكردستاني في سوريا إلا ذريعةً يستهدف الأتراك من خلالها إجهاض أية تجربة سياسية محلية للأكراد حتى وإن كانت تحت مظلة الدولة السورية، كما عبَّرت تصريحات أخيرة للرئيسة المشتركة لدائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا السيدة إلهام أحمد حينما شدَّدت على أن الأولوية القُصوى بالنسبة للإدارة الذاتية تتمثل في دعم عملية الانتقال السياسي السلمي من خلال حوارٍ وطنيٍ متوازنٍ بين الأطراف السوريين، وذلك باعتبار أن الأكراد جزءاً لا يتجزأ من سوريا، وهو ما لا يلقَى ارتياحاً لدى الأتراك بطبيعة الحال.
